النسبيّة في القرآن الكريم

ت + ت - الحجم الطبيعي

الـنسـبـيّة:

إنَّ النِسْـبِيَّةَ في القُرْآنِ الكَريمِ تَجْعَلُ مِنْهُ كِتـابَاً عَالميَّـاً بامْتِيَـازٍ فَريـدٍ، فَمَعَ أنَّـهُ بالنِسْـبَةِ للعَـرَبِ يُمَثِّلُ قِمَّـةَ البَلاَغَـةِ وَالإعْجَـازِ اللُّغَويِّ: (بِلِـسَانٍ عَـربيٍّ مُـبيـنٍ) [الشعراء: 195]، فَإنَّـهُ بالنِسْـبَةِ لِبَـاقي اللُّغَاتِ وَالثَقَافَاتِ الأُخْرى، ذُو أُسْـلُوبٍ سَـهْلٍ مُمْتِعٍ جَذَّابٍ يَسْهُلُ حِفْظُهُ وَتِلاَوَتـُهُ باللُّغَةِ العَربيَّةِ التي نَزَلَ بِهَا مِنْ أيِّ إنْسَانٍ في العَالَمِ مَهْمَـا كَانَتْ لُغَتُـهُ وَثَقَافَتُهُ: (إنْ هُـوَ إلاَّ ذِكْـرٌ لِلـعَـالَـمـِين) [التكوير: 28]، فالنَاسُ مِنْ كُلِّ الأجْنَـاسِ يَأْنَسُـونَ لألْفَاظِ القُرْآنِ وَيُصْغُونَ لَهَا، فالقُرْآنُ مِنْ خَالِقِهِمْ الذي يَعْلَمُ فِطْـرَتَهُـمُ التي فَطَرَهُمْ عَلَيْهَـا، وَالتي تُبْقي عَلى العَلاَقَةِ وَالتَرابُطِ بَيْنَ الخَـالِقِ وَالمَخْلُوقِ..

وَذَلِكَ هُوَ سِـرُّ القُرْآنِ وَطَريقَتُهُ في صِيَاغَةِ حُروفِهِ، التي هِيَ طَريقَةُ الاسْتِهْواءِ الصَوْتيِّ الذي تَطْرَبُ بِـهِ كُلُّ نَفْسٍ تَفْهَمُهُ أوْ لاَ تَفْهَمُهُ، حَيْثُ تَأَلَّفَتْ كَلِمَاتُهُ مِنْ حُروفٍ لَوْ سَقَطَ وَاحِـدٌ مِنْهَا أوْ أُبْـدِلَ بِغَيْرِهِ أوْ أُقْحِمَ مَعَهُ حَرْفٌ آخَرُ، لكَانَ ذَلِكَ خَلَلاً بَيِّنَـاً، أوْ ضَعْفـاً ظَاهِراً في نَسَـقِ الوَزْنِ وَجَرْسِ النَغْمَـةِ وَفي حِسِّ السَمْعِ، وَانْسِجَامِ العِبارَةِ، فالحُروفُ تَمْلِكُ حِسَّـاً أليفَاً مُحَبَّبَـاً في العُقُولِ، وَرنَّـةً حَسَـنَةً ذَاتُ وَقْعٍ جَميلٍ في الآذَانِ، فالحُروفُ مُتَرابِطَةٌ بِشَكْلٍ مُدْهِـشٍ يَجْذِبُ أحَدُهـَا الآخَرُ وَكُلُّ إنْسَانٍ يَرْتَاحُ لِسَمَاعِ القُرْآنِ، لأنَّ القُرْآنَ عَلى فِطْرَةِ كُلِّ الناسِ بِكُلَّ لُغَاتِهِمْ وَأعْمارِهِمْ وَأجْناسِـهِمْ وَأزْمانِهِمْ وَهَذِهِ إحْدى مَظَاهِرِ جَلاَلِ الرُبُوبِيَّةِ (فِطْـرَةَ اللّـهِ الـتي فَطَـرَ الـنَاسَ عَـلَـيْهَـا) [الروم: 30].

نـظـرتُـنـا للـحــيـاة:

لا بُدّ مِنَ الإشارَةِ إلى أنّ نَظْرَتَنا إلى الحَيَاة بِشَكْلٍ عَـامٍّ هيَ نَظْرَةٌ ناقِصَةٌ، مَا دُمْنا نَنْظُرُ إلى الحيَاةِ مِنْ زاوِيَتِنا كَبَشَرٍ فَقَطْ، دُونَ أنْ نَأخُذَ بِعَينِ الاعتِبَارِ، ماذا تَعْني الحَياةُ بالنِسْبَـةِ للمَخْلوقاتِ الأخْرى التي تُشارِكنا العَيْشَ عَلى هَذِهِ الأرْضِ، فَالمخْلوقَاتُ الأخْرى لاَ تَقِـلُّ شَـأْناً وَفِكْراً عَنِ البَشَرِ (وَمَـا مِـنْ دابَّـةٍ فـي الأرْضِ وَلاَ طَـائِـرٍ يَطـيرُ بِجَــنَـاحَـيْـهِ إلاّ أُمَـمٌ أَمْـثَـالُـكُـمْ)[الأنعام: 38].

وَهَذِه المخْلوقاتُ تَقُومُ بِدِراسَاتٍ دَقِيقَةٍ عَنِ الإنسَانِ وَمَا يَعْمَلُ، فَـهُدْهُدُ سُلَيْمانَ قامَ بِدِراسَةٍ مُفَصّلَةٍ عَمّا يَفْعَلُ أهْلُ مدينَةِ سَبَأ وَأتى لِسُلَيمانَ بِمَعْلوماتٍ تُوحي لِمَنْ يَسْمَعها أنَّ مَنْ جَمَعَ هذِهِ المعْلومَاتِ باحِثٌ وَلَيْسَ حَيَواناً: (وَجِـئْـتُكَ مِـنْ سَـبَـإٍ بِنَبَإٍ يَقِيْنٍ إنِّي وَجَـدْتُ اِمْـرأةً تَمْـلِـكُـهُـمْ وَأُوتِيَـتْ مِـنْ كُـلِّ شَـيْءٍ وَلـَهَـا عَـرْشٌ عـظـيمٌ وَجَـدْتُهَـا وَقَوْمَـهَـا يَسْـجُـدُونَ لِلـشَـمْـسِ مِـنْ دُونِ اللّـهِ وَزَيَّنَ لَـهُـمُ الـشَـيْطَـانُ أعْـمَـالـَهُـمْ) [النمل: 22 - 24]

. وَكَذَلِكَ قامَتِ النَمْلَةُ بِدِراسَةٍ مُماثِلَةٍ، إذْ عَرَفَتْ اسمَ سُلَيْمانَ عليهِ السلام كَما عَرَفَتْ أنَّ مَنْ مَعَهُ هوَ جَيشٌ وَجنُودٌ وَ لَيْسَ قافِلَةً مَثَلاً: (حـتَّى إذا أتَـوْا عَـلـى وَادِ الـنَـمـْلِ قَـالَـتْ نَمـْلَـةٌ يَا أيُّـهَـا الـنَمْـلُ ادْخُـلوا مَـسَـاكِـنَكُـمْ لاَ يَحْـطِـمَـنَّكُـمْ سُـلَـيْمَـانُ وَجُـنُودُهُ وَهُـمْ لاَ يَشْـعُـرونَ) [النمل: 18].

الـعـلاقـات الاجـتمـاعـيّة:

وَالعَلاقَاتُ الاجتماعيةُ هيَ أيْضَاً عَلاقَاتٌ نِسْبيّة، فَقَدْ يَكونُ زَيْدٌ مِنَ الناسِ صَديقاً حَميماً بالنسْبَةِ لِعَمْرو، وَعَدوّاً لَـدوداً بالنسبَةِ لِشَخْصٍ آخَرَ في الوَقْتِ ذاتِـهِ، وَقَدْ كانَتْ (حَمّـالَةَ الحَطَبِ) زَوجَةً مُناسِبَةً لأبي لَهَبٍ (عبدُ العُزىّ)، بَيْنَما كانَتِ السيّدَةُ خَديجةُ بنتُ خُوَيْلِدْ رضيّ الله عنها هيَ الزوجَةُ المناسِبَةُ للرَسُولِ صلى الله عليه وسلم، وَكَذَلِكَ الكَلاَمُ، فَالكلِماتُ الطَيِّبَةُ يَقُولُهَا الأُناسُ الطَيِّبُونَ، أمَّا الخَبيثُونَ فَلاَ يَقُولُونَ إلاَّ الكَلِمات الخَبيثَة: (الـخَـبِيثَاتُ لِلـخَـبِيثيِـنَ وَالـخَـبِيثُونَ لِلـخـَبِيثَاتِ وَالـطـيِّـبَاتُ لِلـطَـيِّـبِيـنَ وَالـطَـيِّبونَ لِلـطَـيِّـبَاتِ، أُولَـئِـكَ مُـبَرَّؤونَ مِـمَّـا يَقُولُـونَ)[النور: 26].

(وَهُـدوا إلـى الـطـيّبِ مـنَ الـقَـوْلِ) [الحج: 24]، فالطيّب يكونُ منَ «القوْل»، وكذلك: (أَلـَمْ تَـرَ كَـيْفَ ضَـرَبَ اللّـهُ مَـثَلاً كَـلـمَـةً طَـيّبَـةً كَـشَـجـرةٍ طـيّبةٍ، أصْـلُـهَـا ثـابتٌ وفَـرْعُـهَـا فـي الـسـمـاء.. ومَـثَلُ كَـلِـمَـةٍ خَـبيـثَـةٍ كَـشَـجَـرةٍ خَـبيْثَـةٍ) [إبراهيم: 24 - 26].

وَقَدْ لاَ تَكونُ العلاقَةُ الزوجيّةُ مُتَنَاسِبَـةً بَيْنَ الزَوْجَيْنِ، فَـامْرأةُ نوحٍ عليهِ السلام لَمْ تَكُنِ الزوجَةَ المنَاسِبَةَ لَهُ، وَكَذَلِكَ امْرَأةُ لوطٍ عليهِ السلام: (ضَـرَبَ اللَّـهُ مَـثَلاً لِلَّـذينَ كَـفَروا اِمْـرَأة نوحٍ وَاِمْـرَأة لُـوطٍ كَـانَتَـا تَحْــتَ عَـبْدَيْنِ مِـنْ عـِبَادِنَا صَـالِـحَـيْنِ فَخَـانَتَـاهُـما)[التحريم: 10]، وَقَدْ كَانَ الأمْرُ مَعْكوساً بالنِسْبَةِ لاِمرأةِ فِرْعَونَ «آسيا»، فَلَمْ يَكُنْ فِرْعَوْنُ زَوْجَاً مُنَاسـِبَاً لـهَا: (وَضَـرَبَ اللَّـهُ مَـثَلاً لِلَّـذينَ آمَـنُوا اِمْـرَأَة فِرْعَـوْنَ إذْ قَـالَـتْ رَبِّ اِبْنِ لـي عِـنْدَكَ بَيْتَـاً في الـجَـنَّةِ وَنَجِّـني مِـنْ فِـرْعَـوْنَ وَعَـمَـلـِهِ) [التحريم: 11]، في حَالِ التَوافُق تُسَمَّى زَوْجَـةً وَفي حَالِ الخِـلاَفِ تُسَمَّى امْرَأةً.

تـقــيـيـمُ الأعـمـال:

وَتَقْييمُ الأعْمَالِ مِنْ حَيْثُ صِحّتِها أوْ خَطَئِهَا، قَبولِها أمْ رَفْضِها، هوَ أيْضَاً أمْرٌ نِسـْبيٌّ، فَالعَمَلُ الذي مِنْ وِجْهَةِ نَظَرِ إنسانٍ مَا أنَهُ عَمَلٌ صَوَابٌ وَصَحيحٌ، يَكونُ بِذاتِ الوَقْتِ بالنِسْبَةِ لإنْسَانٍ آخَـرَ عَمَلٌ خاطئٌ وَمَرْفوضٌ: (قُلْ كُـلٌّ يَـعْـمَـلُ عَـلـى شَـاكِـلَـتِهِ) [الإسراء: 84]، (قُلْ يَا أيُّـهَـا الـكَـافِرونَ لاَ أَعْـبُدُ مَـا تَعْـبُدونَ وَلاَ أنْتُمْ عَـابِدونَ مَـا أَعْـبُـدُ) [الكافرون: 1 - 3]

وفي هذا السياق نجدْ قولـه تعالى: (وَمَـنْ يقْـترفْ حَـسَـنةً نَـزِدْ لـه فيهـا حُـسْـناً)[الشورى: 23]، فالحسـنةُ بالنسبة للكافر هي «سـيّئة» وتُقْترف، لأنّ «الاقترافُ » يكونُ فقط للسـيّئات، لقولـه تعالى: (إنّ الـذين يـكْـســبونَ الإثـمَ سَـيُجْـزَوْنَ بِـمَـا كَـانوا يَـقْـترفـونَ) [الأنعام: 120]، (وَلـتَـصْـغـى إلـيْهِ أفْـئِـدَةُ الـذين لا يُـؤْمـنون بالآخـرَةِ) (الأنعام: 113).

تقييم مختلف

يختلف تَقْييم الأعْمَالِ بالنسـْبَةِ لِلّهِ عَنْهُ بالنِسْـبَةِ لِلناسِ (تَحْـسَـبُونَهُ هَـيِّنَاً وَهُـوَ عِـنْدَ اللَّـهِ عَـظِـيمٌ) [النور: 15]، (الـذينَ ضَـلَّ سَـعْـيُهُـمْ فـي الـحَـيَاةِ الـدُنْيَا وَهُـمْ يَحْـسَـبُونَ أنَّهُـمْ يُحْـسِـنونَ صُـنْعَـاً) [الكهف: 104]، وَيُعْتَبَرُ مَوْضُوعُ مَوسى عليه السلام مَعَ (الخَضِر) مِنْ أوْضَحِ المَواضِيعِ عَنِ الفَهْمِ النِسْبيِّ لِما حَصَلَ مَعَهُما مِنْ أحْداثٍ، فَمَا كانَ بالنِسْبَةِ لِموسى أخْطاء، بَلْ وجرائِم يَقومُ بِهَا الخضْر، وَيَسْتَحيلُ الصَبْرُ أو السُكُوت عَنْهَا، كَانَتْ بالنِسْبَةِ إلى الخضْرِ أمُوراً وَأحْداثاً عَاديّةً يُنَفّذُها بِنَاءً عَلى أوامِرَ عُلْيـا: (حَـتّى إذا رَكِـبَا فِي الـسَـفـِينَةِ خَـرَقَها قَالَ أّخَـرَقْتَـهـَا لـِتُغْـرِقَ أهْـلـَهَـا لَـقَدْ جِـئـْتَ شَـيْئَـاً إمْـراً..

حـَتّى إذا لـَقِيَـا غُـلامَـاً فَـقَـتَـلـَهُ قالَ أَقَتَلـْتَ نَفْـسَـاً زَكِـيّـةً بِغَـيْرِ نَفْـسٍ لَـقَـدْ جِـئْـتَ شَيْـئـاً نُكْـراً)، فَأوْضَحَ لَـهُ الخضْرُ الغايَـةَ التي وَرَاءَ الحَدَثِ: (أمَّـا الـسَـفينَـةُ فَكَـانَتْ لِـمَـسَـاكِـيـنَ يَعْـمَـلـونَ فـي الـبَحـْرِ فَأرَدْتُ أنْ أعِـيْـبَـهَـا وَكَـانَ وَراءَهـمْ مَـلِـكٌ يَأْخُـذُ كُـلَّ سَـفيْنَةٍ غـَصْـباً وَأمَّـا الـغُـلامُ فَكَـانَ أبَواهُ مُـؤْمِـنَـيْنِ فَخَـشـينَا أنْ يُـرْهِـقَهُـمَـا طُـغْـيَاناً وَكُـفْراً... وَمَـا فَعَـلْـتُهُ عَـنْ أمْـري ذَلِـكَ تَأْويْلُ مَـا لـَمْ تَسْـطِـعْ عَـلـَيْهِ صَـبْراً) [الكهف: 71].

Email