.. فاقصص القصص

01

ت + ت - الحجم الطبيعي

التَنَوُّعُ الرائِعُ في أُسْلوبِ عَرْضِ القِصَّةِ في القُرْآنِ الكَريمِ، هُـوَ أسـلُوبٌ نسـيج وحـده، فَمَرَّةً يَذْكُرُ مُلَخَّصَ القِصَّةِ في أوَّلِهَا، ثُمَّ تَأْتي التَفْصيلاَتُ بَعْدَ ذَلِكَ، كَمَا في قِصَّةِ أصْحَابِ الكَهْفِ: »أمْ حَـسِـبْتَ أنَّ أَصْـحَـابَ الـكَـهْـفِ وَالـرَقِيْمِ كَـانُوا مِـنْ آيَاتِنَا عَـجَـبَاً إذْ أوى الـفِتْيَةُ إلـى الـكَـهْـفِ فَقَالُـوا رَبَّنَا آتِنَا مِـنْ لَـدُنْكَ رَحْـمَـةً وَهَـيِّءْ لَـنَا مِـنْ أمْـرِنَا رَشَـدَاً فَضَـرَبْنَا عَـلـى آذَانِهِـمْ فـي الـكَـهْـفِ سِـنينَ عَـدَدَاً ثُمَّ بَعَـثْنَاهُـمْ لِـنَعْـلـمَ أَيُّ الـحِـزْبَيْنِ أحْـصَـى لِـمَـا لَـبِثُوا أمَـدَاً..

 نَحْـنُ نَقُصُّ عَـلَـيْـكَ نَبَأَهُـمْ بالـحَـقِّ« (الكهف، بدءاً من الآية 9)، وَمَرَّةً يَذْكُرُ العاقِبَةَ وَالمَغْزى في بِدايَةِ القِصَّةِ، ثُمّ تَبدَأُ القِصَّةُ في مَراحِلِها الأُخْـرى: »إنَّا بَلَـوْنَاهُـمْ كَـمَـا بَلَـوْنا أَصْـحَـابَ الـجَـنَّةِ إذْ أقْسَـمُـوا لَـيَـصْـرِمُـنَّهَـا مُـصْـبحـينَ« (القلم 17).

وَمَرَّةً تُسْرَدُ القِصَّةُ دُونَ مُقَـدِّمَةٍ وَلاَ تَلْخيص، مِثَـال: »وَهَـلْ أتَاكَ حَـديثُ مُـوسَـى إذْ رَأى نَاراً فَقَـالَ لأهْـلِـهِ امْـكُـثُوا إنَّـي آنَسْـتُ نَاراً لِـعَـلَّـي آتِيـكُـمْ مِـنْهَـا بِقَـبَسٍ أوْ أجِـدُ عَـلـى الـنَـارِ هُـدَىً فَـلَـمَّـا أتَاهَـا نُودِيَ يَا مُـوسَـى إنَّـي أنَـا رَبُّـكَ فَاخْـلَـعْ نَعْـلَـيْكَ إنَّكَ بِالـوادِ الـمُقَـدَّسِ طُـوى وَأنَا اخْـتَرْتُكَ فَاسْـتَمِـعْ لِـمَـا يُوحـى« (طه 9 00).

شـخـصـيّاتُ الـقـصّـة:

وَمَرَّةً تَبْرُزُ شَخْصِيَّةُ القِصَّةِ مُنْذُ وِلاَدَتِهَا، مِثْلَ شَخْصيَّةِ عيسـى عليه السلام: »وَاذْكُـرْ فـي الـكِـتَابِ مَـرْيَمَ إذِ انْتَبَذَتْ مِـنْ أهْـلِـهَـا مَـكَـانَاً شَـرْقِيَّاً.. فَأجَـاءَهَـا الـمَـخَـاضُ إلـى جِـذْعِ الـنَخْـلَـةِ.. فَنَادَاهَـا مِـنْ تَحْـتِهَـا ألاَّ تَحْـزَني قَـدْ جَـعَـلَ رَبُّـكِ تَحْـتَكِ سَـرِيَّا.. فَأتَتْ بِهِ قَـوْمَـهَـا تَحْـمِـلُـهُ.. قَالُـوا كَـيْفَ نُـكَـلِّـمُ مَـنْ كَـانَ فـي المَـهْـدِ صَـبْيَّاً قَالَ إنِّي عَـبْدُ اللّـهِ آتَانِيَ الـكِـتَابَ وَجَـعَـلَـني نَبِيَّاً..« (مريم 16 / ..).

وَمَرَّةً تَبْرُزُ شَخْصِيَّةُ القِصَّةِ في طُفُولَتِهَا، مِثْلَ شَخْصِيَّةِ يوسف عليه السلام: »إذْ قَالَ يُوسُـفُ لأبيهِ يَا أبَتِ إنَّـي رَأيْتُ أحَـدَ عَـشَـرَ كَـوْكَـبَاً وَالـشَـمْـسَ والـقَـمَـرَ رَأيْتُـهُـمْ لـي سَـاجِـدينَ.. قالُـوا يَا أبَانَا مَـا لَـكَ لاَ تَأْمَـنَّا عَـلـى يُوسُـفَ.. أرْسِـلْـهُ مَـعَـنَا غَـدَاً يَرْتَعْ وَ يَلْـعَـبْ.. فَأَكَـلَـهُ الـذِئْبُ..) (يوسف 4 /..).

وَمَرَّةً تَبْرُزُ شَخْصِيَّةُ القِصَّةِ في صِباهَا، مِثْلَ شَخْصِيَّةِ إبْراهيمَ عليه السلام: »وَلَـقَـدْ آتَيْنَا إبْراهِـيمَ رُشْـدَهُ مِـنْ قَـبْلُ وَكُـنَّا بِهِ عَـالِـمـينَ.. قَالـوا سَـمِـعْـنَا فَتَـىً يَذْكُـرُهُمْ يُقالُ لَـهُ إبْراهـيمُ.. أُفٍّ لَـكُـمْ وَلِـمَـا تَعْـبُدونَ مِـنْ دُونِ اللَّـهِ.. قَالُـوا حَـرِّقُوهُ.. قُـلْـنَا يَا نَارُ كُـونـي بَرْدَاً وسَـلاَمَـاً عَـلـى إبْراهِـيم« (الأنبياء 51 / ..).

وَمَرَّةً لاَ تَبْرُزُ شَخْصِيَّةُ القِصَّةِ إلاَّ بَعْدَ الرِسَالَةِ، مِثْلَ شَخْصِيَّةِ نُوح عليه السلام: »إنَّا أرْسَـلْـنَا نُوحَـاً إلـى قَـوْمِـهِ..« (نوح 1 /00)، أوْ شُـعَيْب: »وَإلـى مَـدْيَنَ أَخَـاهُـمْ شُـعَـيْباً قَالَ يَا قَـوْمِ اعْـبُدُوا اللَّـهَ مَـا لَـكُـمْ مِـنْ إلـهٍ غَـيْرُهُ« (الأعراف 85)، أوْ صَالح: »وَإلـى ثَمُـودَ أَخَـاهُـمْ صَـالِـحَـاً قَالَ يَا قَـوْمِ اعْـبُدُوا اللَّـهَ مَـا لَـكُـمْ مِـنْ إلـهٍ غَـيْرُهُ« (الأعراف 73)، عليهم جميعاً السلام.

وَمَرَّةً تَكونُ شَخْصِيَّةُ القِصَّةِ حَيَوانيَّةً، مِثْلَ هُـدْهُدْ سُلَيْمانَ عليه السلام: »وَتَفَقَّـدَ الـطَـيْرَ فَقَـالَ مَـالـي لاَ أرى الـهُـدْهُـدَ.. فَـمَـكَـثَ غَـيْرَ بَـعِـيدٍ فَقَـالَ أَحَـطْـتُ بِمَـا لَـمْ تُحِـطْ بِهِ وَجِـئـْتُـكَ مِـنْ سَـبَإٍ بِنَبَـإٍ يَقينٍ« (النمل 20 / 00).

يقدم »القَصَصِ القُـرْآنيِّ« مَنْهَجَـاً في غَايَةِ الأهَميَّةِ: »لَـقَـدْ كَـانَ فـي قَصَـصِـهِـمْ عِـبْرَةً« (يوسف 111)، وَهَذَا المَنْهَجُ هُوَ بأهَميَّةِ الأحْكامِ، حَيْثُ يُقَدِّمُ التَنْويرَ اللازِمَ للإنْسانِ: »فَاقْصُـصِ الـقَصَصَ لَـعَـلَّهُـمْ يَتَفَـكَّـرونَ« (الأعراف 176)، خاصّةً في مجال »علْم النفْس الإنسانيّة«.

أحْـسَـنَ الـقـصَـص:

تَتمـيّزُ سُورَةُ يُوسُفَ عليه السلام التي هِيَ أَحْسُنُ القَصَصِ: »نَـحْـنُ نَقُـصُّ عَـلَـيْـكَ أَحْـسَـنَ الـقَـصَـصِ« (يوسف 3)، بأنهـا السُورَةُ الوحيدةُ مِنْ بَيْنِ كُلِّ سُوَرِ القرآنِ الكَريمِ التي اقْتَصَرَتْ عَلى قِصَّةِ يوسُفَ عليه السلام، وَهيَ القِصَّةُ الوحيدَةُ المُجْتَمِعَةُ في مَوْقَعٍ واحِدٍ، فَأَيُّ سُورَةٍ أُخْرى تَحْمِلُ اسْمَ نَبِيٍّ لَمْ تَنْفَرِدْ بالحديثِ عَنْ ذَلِكَ النَبيِّ، وَهِيَ شَامِلَةٌ لِكُلِّ جَوَانِبِ الحَيَاةِ، وَتَعْتَمِدُ أَصْلاً عَلى رُؤيَا نَبيٍّ هُوَ يوسُفُ، وَتَدُورُ أَحْدَاثُهَا في القَرْنِ 17 قَبْلَ الميلاَدِ، كَمَا نُلاَحِظُ أَنَّ شَخْصِيَّةَ يوسُفَ تَشُعُّ بِمَعَانٍ عَديدَةٍ يَنْفَرِدُ بِهَا يوسُفُ مِنْ حَيْثُ:

جَمَـالُ هَذِهِ الشَخْصِيَّةِ: ففي الحَديثِ الشَريفِ أَنـَّهُ أُوتيَ شَطْرَ »نِصْفَ« الحُسْـنِ، وَرُبَّمَـا ورِثَ هَذا الجمَالَ عَنْ زَوْجَةِ إبراهيمَ سَـارةُ »أَجْمَلُ نِسَاءِ الأَرْضِ« التي هِيَ أُمُّ جَدّتِـهِ: »فَلَمّـا رَأَيْنَهُ أَكْـبَرْنَهُ وَقطَّـعْـنَ أَيْدِيَهُـنّ وَقُلـْنَ حَـاشَـى لِلَّـهِ مَـا هَـذا بَشَـراً إنْ هَـذا إلاَّ مَـلَـكٌ كَريمٌ« (يوسف 31)، وَلَمّا أعْطى اللهُ هَذا الجمَال إلى يوسُفَ ابتَلاهُ بالرِقِّ والعُبوديَّةِ: »وَأَسَـرُّوهُ بِضـاعَـةً.. وَشَـرَوْهُ بِثَمَـنٍ بَخْـسٍ دَراهِـمَ مَـعْـدودَةٍ وَكَـانوا فيـهِ مِـنَ الـزاهِـدينَ« (يوسف 19 / 20)، ويبقى الجمالُ مَحبوباً بينَ الناسِ.

ثَبـَاتُ هَذِهِ الشَخْصيَّةِ: فَقَدْ كانَ طوالَ حَيَاتهِ مِنَ المُحْسِـنينَ، وفي الحديث الشريف الإحسانُ: أن تعبُد الله كأنّكَ تراه، رواه البخاري برقم 50، فَقَبْلَ السِجْنِ: »وَلمَّـا بَلَغَ أَشُـدَّهُ آتَيْنَاهُ حُـكْـمـاً وَعِـلْـمَـاً وَكَـذَلِـكَ نَجْـزي الـمُـحْـسِــنينَ) (يوسف 22)، ثُمَّ في السِجْنِ: حَيْثُ يَقُولُ لَـهُ صَاحبا السِجْنِ: »إنَّا نَرَاكَ مِـنَ الـمُـحْــسـِنينَ« (يوسف 36) وَعِنْدَمَا أَصْبَحَ عَزيزَ مِصْرَ حَيْثُ يَقُولُ لَـهُ إخْوتُهُ: »إنَّا نَرَاكَ مِـنَ الـمُـحْــسـِنينَ« (يوسف 78)، كَمَا كَانَ مِنَ الصَـادِقينَ »وَهُـوَ مِـنَ الـصَـادِقـينَ« (يوسف 27)، وَلَمْ يَقُلْ: صَـادِقَاً، وَلكِنْ قَالَ: مِنَ الصَـادقينَ.

صَـبْرُ هَذِهِ الشَخْصيَّة: »قَالَ ربّ الـسِـجْـنُ أَحَـبُّ إلـيَّ مِـمَّـا يَدْعُـونَني إلـَيْهِ« (يوسف 33)، ثُمّ رَفضَهُ الخُروجَ مِنَ السِجنِ بَعْدَ سَنواتٍ مِنَ السِجْنِ الانْفِراديِّ: »فَلَـبِثَ فِي الـسِـجْـنِ بِضْـعَ سِنينَ« (يوسف 42)، وَفي ذَلِكَ يَقُولُ النبيُّ صلى الله عليه وسلّم: ».. وَلَوْ لَبِثْتُ في السِجْنِ طُولَ مَا لَبِثَ يُوسُفَ لأَجَبْتُ الدَاعي« (رواه مسلم في الإيْمـان، والبخـاري في الأنبيـاء عن أبي هـريرة رضي الله عنه).

تَـوَكُّلُ هَذِهِ الشَخْصيَّةِ عَلى اللَّـهِ: »وَاتَّبَعْـتُ مِـلَّـةَ آبَائي إبْراهِـيمَ وإسْـحَـاقَ وَيَعْـقُوبَ مَـا كَـانَ لَـنَا أَنْ نُشْـرِكَ بِاللَّـهِ مـِنْ شَــيْءٍ ذَلـِكَ مِـنْ فَضْـلِ اللَّـهِ عَـلَـيْنَا وَعَـلـى الـنَاسِ« (يوسف 38).

انتصار شخصية يوسف

 انتصَرَتْ شـخصيّةُ يوسُفَ عليه السلام في كل المواقف التي تعرّضَ لهـا بفضْل صـبره وأخلاقـه، فقـد انتصَـرَ عَلى: غَـريزَةِ الجِنْسِ: »وَرَاودتْهُ الـتي هُـوَ في بَيْتِهَـا عَنْ نَفْسِـهِ وَغَـلّـقَـت الأَبْوابَ وَقَالَـتْ هَـيْـتَ لَـكَ قَالَ مَـعَـاذَ اللَّـهِ« (يوسف 23). وَانتصَارهِ عَلى حِقْدِ الإخْوَةِ: »قَالَ لاَ تَثْريبَ عَـلَـيْكُـمُ الـيَوْمَ يَغْـفِـرُ اللَّـهُ لَـكُـمْ وَهُـوَ أَرْحَمُ الراحِـمِـين« (يوسف 92)، لذلك يـجبُ دراسة شَـخصيّة يوسف منَ النواحي النفسيّة، فعندمـا اتـّهمه إخوتُهُ بالسرقة وأمَـامَ حَاشـيته:

»قالوا إنْ يَسْـرقْ فقـدْ سَـرَقَ أخٌ لـهُ مِـنْ قَـبْلُ« (يوسف 77)، ولكنّ يوسُفَ عليه السلام لـمْ تبدُ حتّى على مـلامـحـه أيّ آثـار: »فـأسَـرّهـا يوسُـفُ فـي نفـسـه ولـمْ يُـبْـدِهـا لـهُـمْ« (يوسف 77)، وأخيراً انتصَارُ هذه الشخصيّة عَلى نَزْغِ الشَيْطانِ: »مِـنْ بَعْـدِ أَنْ نَزَغَ الـشَـيْطَـانُ بَيْني وَبَيْنَ إخْـوَتي« (يوسف 100).

Email