قُلْ هُـوَ اللـه أحـد

ت + ت - الحجم الطبيعي

إنَّ فِكْـرَةَ ( الثُنَـائِيَّةِ ) قَديمَـةٌ قِدَمَ الإنْسَـانِ، حَيْثُ تَصَـوَّرَ أنَّ ثَمَّـةَ شَـيْئَاً يَخْتَلِفُ عَنِ المَـادَّةِ يُغَادِرُ الجِسْمَ عِنْدَ المَوْتِ هُوَ ( النَفْسُ )، وَ أمَامَ هَذَا الاعْتِقَادِ ظَهرَتْ ( رَهْبَةُ المَوْتِ )، فَحَاوَلَ جَاهِدَاً التَمَسُّكَ بالخُلُودِ، وَ لَوْ عَلى حِسَابِ مُخَالَفَةِ أوامـِرِ الإلهِ : ( وَ قُـلْـنَا يَا آدَمُ اسْـكُـنْ أنْتَ وَ زَوْجُـكَ الـجَـنَّـةَ وَ كُـلاَ مِـنْهَـا رَغَـدَاً حَـيْثُ شْـئْـتُـمَـا وَ لاَ تَقْـرَبا هَـذِهِ الـشَـجَـرَةَ )[ البقرة 36 ]، وَ لكِنْ : ( فَوَسْـوَسَ إلـيْهِ الـشَـيْطَـانُ قَالَ يَا آدَمُ هَـلْ أدُلُّـكَ عَـلـى شَـجَـرَةِ الـخُـلْـدِ وَ مُـلْـكٍ لاَ يَبْلـى فَأكَـلاَ مِـنْهَـا )[ طـه 120 ]، وَ هَكَذَا تَمَّتْ مُخَالَفَةُ أوامِرِ الإلهِ : ( لاَ تَقْرَبا هَذِهِ الشَجَرَةَ )، مُقَابِلَ ( الخُلْدِ ) .

كَمَا شَـغَلَ الإنْسَـانُ نَفْسَـهُ مُنْذُ القِـدَمِ، بِمُحَاوَلَةِ مَعْـرِفَةِ أُمُـورٍ هِيَ ( كُلُّ الفَلْسَـفَةِ ) مِثْلَ : أَيُّهُمـا كَانَ أوَّلاً ؟ المَـوْتُ أمِ الحَيَـاةُ، العَـدَمُ أمِ الـوُجُودُ، الضَـارُّ أمِ النـافِعُ ...

وَ قَدْ أجَابَ القُرْآنُ الكَريمُ عَن جَميعِ هَذِهِ الأسْئِلَةِ، فالمـوْتُ كَانَ قَبْلَ الحَيَـاةِ : ( كُـنْتُمْ أمْـواتَاً فَأحْـيَاكُـمْ )[ البقرة 28 ]، وَ العَدَمُ كَانَ قَبْلَ الوُجُودِ : ( وَ قَدْ خَـلَـقْـتُـكَ مِـنْ قَبْلُ وَ لَـمْ تَكُ شَـيْئـَاً )[ مريم 9 ]، وَ الضَـارُّ كَانَ قَبْلَ النـافِعِ : ( وَ نَفْسٍ وَ مَـا سَـوَّاهَـا فَألْـهَـمَـهَـا فُجُـورَهَـا وَ تَقْواهَـا )[ الشمس 7 / 8 ]، وَ الليلُ كَانَ قَبلَ الضِياءِ : ( وَ أغْـطَـشَ لَـيْلَـهَـا وَ أخْـرَجَ ضُحَـاهَـا )[ النازعات 29 ].

قـوى الـطـبـيعـة :

قَسَّـمَ الإنْسَـانُ القَديمُ قِـوى الطَبيعَـةَ إلى قُـوَّتَيْنِ مُتَعَاكِسَـتَيْنِ :

1 _ قُـوّةٌ إيْجَـابِيَّةٍ : مِثْلَ الحَيَـاةِ، النَفْـعِ، التَكَـاثُرِ، النُـورِ، العَطَـاءِ ...

2 _ قُـوّةٌ سَـلْبِيَّةٌ : مِثْلَ المـوْتِ، الضُـرِّ، الجَـدْبِ، الظَـلاَمِ، الشُـحِّ ...

لِذَلِكَ عَبَدَ قِوى وَ ظَواهِرَ الطَبيعَةِ، طَمَعَاً في خَيْرِهَا وَ خَوْفَاً مِنْ غَضَبِهَا وَ بَطْشهَا ( وَ جَـدْتُهَـا وَ قَـوْمَـهَـا يَسْـجُـدونَ لِلـشَـمْـسِ مِـنْ دُونِ اللّـهِ )[ النمل 24 ]، وَ اعْتَقـدَ ذَلِكَ الإنْسَانُ أنَّ هُنَاكَ صِراعَاً بَيْنَ القُوَّتَيْنِ ( تَنَاوُبُ الفُصُولِ )، فَحَاوَلَ مُسَاعَدَةَ قِوى الخيْرِ ( الزِراعَةُ )، كَمَا اسْتَخْدَمَ السِحْرَ لاتِّقَاءِ شُـرورِ الطَبيعَةِ.

الــثـنـيـويّـة الـدينـيّـة :

مَذْهَبٌ ديـنيٌّ فلْسَفيٌّ قَديمٌ، يَقُولُ بِوُجُودِ إلهَيْنِ مُتَضَادَّيْنِ مُنْذُ الأزَلِ أحَدُهُما للخَـيْرِ وَ الآخَرُ للشَرِّ وَهُمَـا في صِـراعٍ دائِمٍ، لأنَّ الواحِـدَ ( حَسْبَ زَعْمِهِمْ ) لاَ يَكُونُ خَيِّـراً وَ شِرِّيراً بِذَاتِ الوقْتِ، ( قُلْ كُـلٌّ مِـنْ عِـنْدِ اللّـهِ )[ النساء 78 ]، وَ بَرَزَتِ الثِنْيَويَّـةِ في الأدْيانِ وَ الشُعُوبِ القَديمَةِ التي يَتَقابَلُ فيهَـا الأرْواحُ الشِـرِّيرَةُ مَعَ الأرْواحِ الطَيِّبَـةِ، وَ تَقُولُ بِوُجُودِ طَبيعَتَيْنِ مُتَعَارِضَتَيْنِ هُمَا: النُورُ وَ الظَلاَمُ، و الخـيْرُ و الشـرُّ، وَ الخـيْرُ وَحْدَهُ قَادِرٌ عَلى الشُعُورِ وَ الحُرِيَّةِ، وَ الشَـرُّ أعْمى وَ جَاهِلٌ .

وَ في مِصْرَ القَديمَةِ كَانَتْ ( أوزيريسْ ) آلِهَةً للنيلِ وَ الخيْرِ، بَيْنَمَا ( سِتْ ) آلِهَةً للصَحْراءِ، وَ في بِلاَدِ مَا بَيْنَ النَهْرَيْنِ ( العِراقُ حَالِيَّاً )، كَانَتْ ( تِيامَاتُ ) رَمْـزَاً لآلِهَـةِ الظَلاَمِ الشِرِّيرَةِ، بَيْنَما كَانَ ( مَرْدوكُ ) هُـوَ إلِـهُ النُـورِ الذي قضَى عَلَيْهَا، ثُمَّ نَظَّمَ السَـمَاواتِ وَ الأرْضِ، وَ في بِلاَدِ الشَامِ كَانَ ( يَمْ ) هُوَ إلَـهُ المِيَاهِ الغَامِرَةِ المُظْلِمُ، حَتَّى ظَهَرَ الإلَهُ ( بَعْلْ ) الذي قَضى عَلَيْهِ، وَ لَكِنَّ أتْبَاعَ ( يَمْ ) مَا زَالُوا يُحَارِبُونَ ( بَعْلْ ) بِقِيَادَةِ ( مُوتْ )، وَ المَعْرَكَةُ مُسْتَمِرَّةٌ بَيْنَ ( المَوْتِ وَ الحَياةِ ) .

الـتـوحــيـد :

كَانَتْ دَهْشَتُهُمْ بَالِغَـةً: ( أَجَـعَـلَ الآلِـهَـةَ إلهَـاً وَاحِـداً، إنَّ هَـذا لَـشَـيْءٌ عُـجَـابٌ ) [ ص 5 ]، وَ ليْسَ : عَجيباً، وَذَلِكَ للمُبَالَغَةِ في العَجَبِ، لذلك حاربت الأديانُ و خاصّةً الديْنُ الإسـلاميّ، حاربَ الشـرْكَ و جعلـه على رأسِ الكبائر و ذَنْبٌ لا يُغْـفَـرُ، و مَنَع السجود للظـواهـر الطبيعيّة و غيْـرهـا: ( لاَ تَـسْـجُـدوا لِلـشَـمْـسِ وَ لاَ لِلـقَـمَـرِ وَ اسْـجُـدوا لِلَّـذي خَـلَـقَـهُـنَّ )[ فصلت 37 ]، ( أَ فَـرَأيْتُـمُ الـلاَّتَ وَ الـعُـزّى وَ مَـنَـاتَ الـثَـالِـثَةَ الأُخْـرى .... إنْ هِـيَ إلاَّ أسْـمَـاءٌ سَـمَّـيْتُمُـوهـا أنْتُمْ وَ آباؤكُـمْ مَـا أنْزَلَ اللّـهُ بِهَـا مِـنْ سُـلْـطانٍ إنْ يَتَّبِعُـونَ إلاَّ الـظَـنَّ وَ مَـا تَهْـوى الأنْفُسُ )[ النجم 19 / 23 ]، أيْ أنَّ أسْماءَ هَذِهِ الآلِهةَ هي [ اسْمٌ بِلا مُسَمّى ]، لأنَّ المُسَمّى هُو الاسمُ الثابِتُ في الأعْيانِ أمَّا هذه الآلِهَةُ فَليْسَتْ في الأعيان .

ثُـمّ جـاءتْ اُسُـسُ الـتوحـيد: ( وَمَـا مِـنْ إلَـهٍ إلاَّ اللَّـهُ الـواحِـدُ الـقَـهَّـارُ رَبُّ الـسَـمَـاواتِ وَ الأرْضِ وَ مَـا بَيْنَهُـمَـا )[ ص 65 / 66 ]، ( ذَلِـكُـمُ اللَّـهُ رَبُّـكُـمْ لاَ إلَـهَ إلاَّ هُـوَ خَـالِـقُ كُـلِّ شَــيْءٍ فَاعْـبُدوهُ وَ هُـوَ عَـلـى كُـلِّ شَـيْءٍ وَكِـيلٌ )[ الأنعام 102 ]، ( مَـا اتَّـخَـذَ اللّـهُ مِـنْ وَلَـدٍ وَ مَـا كَـانَ مَـعَـهُ مِـنْ إلَـهٍ إذاً لَـذَهَـبَ كُـلُّ إلَـهٍ بِمَـا خَـلَـقَ وَ لَـعَـلاَ بَعْـضُـهُـمْ عَـلـى بَعْـضٍ سُـبْـحَـانَ اللّـهِ عَـمَّـا يَصِـفُـونَ )[ المؤمنون 91 / 92 ] .

وَ لَوْ كَانَ يُوْجَدُ إلـهَانِ، فَلاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ كُلُّ إلَـهٍ لَـهُ مَجَالٌ مَحْدودٌ خَاصٌّ بِـهِ، وَ المَحْدُودُ يُحِيْطُهُ العَـدَمُ مِنْ كُلِّ الجَوانِبِ، وَ لاَ يَكُونُ : ( اللّهُ أَكْبَرُ اللّهُ أَكْبَرُ )، وَ إذَا كَانَ الإلَـهُ مَحْـدُودَاً، أَصْبَحَ المَكَانُ أَكْبَرُ مِنَ الإلَهِ، وَهَذَا مُحَـالٌ عَلى صِفَاتِ إلهٍ، فالمَحْدُودُ يَكُونُ لِلمَخْلُوقِ وَ لَيْسَ لِلخَالِقِ، وَإذَا كَانَ هُناكَ إلـهَانِ، فَلاَ بُدَّ أَنْ يَكُونُ أَحَدَهُمَا قَدْ وُجِـدَ قَبْلَ الآخَرِ، عِنْدَهَا يُصْبِحُ كِلاَ الإلَـهَيْنِ مَحْدُودٌ بِالزَمَـانِ، وَ هَذَا مَـالاَ يَقْبَلُهُ عَقْـلٌ وَلاَ مَنْطِـقٌ، وَإذَا كَانَ هُناكَ إلـهَانِ، فَلاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ لَدَى كُلِّ إلـهٍ صِفَاتٌ لاَ تُوجَدُ لَدى الإلَـهِ الآخَرَ، وَ في هَذِهِ الحَالَةِ فَإنَّ كُلَّ إلـهٍ مِنْهُما ( يَحْتاجُ ) لِمَا لَدى الإلَهِ الآخَرَ مِنْ صِفاتٍ يُكْمِلُ بِها نَقْصَهُ، وَ هَذَا يَنْفي صِفَةَ الإلَـهِ عَنْ كِلَيْهِمَا، لِذَلِكَ أحَدٌ أَحَدٌ أحـدٌ أحـدٌ .... .

الـصـمـديّة الشـريفـة :

( قُلْ هُـوَ اللّـهُ أَحَـدٌ ..... وَ لَـمْ يَكُـنْ لَـهُ كُـفُواً أَحَـد )[ سورة الإخلاص ]

(الأحَدُ ) الأولى : تَنْفي أنَّ اللّهَ سُبْحَانَهُ مُرَكَّبٌ مِنْ أَجْزَاءَ فالمُرَكَّبُ يَحْتَاجُ لِمُواصَفاتٍ قَدْ تَكُونُ نَاقِصَة، أوْ يَكُونُ النَقْصُ في المُرَكَّباتِ، بينمـا ( الأحَدُ ) الثـانيةُ تَنْفي وُجُودَ شَبيهٍ لِلّهِ، وَ لَوْ إلَـهٌ آخَرَ لَـهُ صِفَاتٌ مُشْتَرَكَةٌ مَعَ الإلَـهِ الأوَّلِ، وَ صِفـاتٌ أُخْـرى مُخْتَلِفَـةٌ، إذاً : أحَـدٌ وَ صَمَدٌ بِذاتِهِ، لاَ يَتَغَيَّرُ وَلاَ يَتَبَدَّلُ، وَ لَمْ يَلِـدْ وَ لَمْ يُولَـدْ وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ، لأنَّهُ احْتَفَظَ لِذاتِـهِ الكِريمَةِ بِكُلِّ القُوى: ( لاَ قُـوَّةَ إلاَّ بِاللَّـهِ ) [ الكهف 39 ]، لِذَلِكَ كانَ اللهُ الأحَـدُ : الحَيُّ الجَبَّارُ، قَادِرٌ لاَ يَعْتَريهِ عَجْزٌ، لَـهُ المُلْكُ وَ المَلَكُوتُ، وَ العِزَّةُ وَ الجَبَروتُ، لاَ تُحْصى مَقْدوراتُهُ وَ لاَ تَتَناهى مَعْلوماتُهُ، مَا شَاءَ كَانَ، وَ مَا لَمْ يَشـَأْ لَمْ يَكُنْ، يَعْلَمُ السِرَّ وَ أخْفى: ( فَإنَّهُ يَعْـلَـمُ الـسِرَّ وَأخْـفى ) [ طه 7 ]، هُوَ المُبْدئ المُعِيدُ ( إنّهُ هُـوَ يُبْدِئ وَ يُعِـيدُ )[ البروج 13 ]، الفاعِلُ لِمَا يُريدُ ( فَعَّالٌ لِـمَـا يُريدُ )[ البروج 16 ]، ( لاَ يَعْـزُبُ عَـنْهُ مِـثْقالُ ذرةٍ في الـسَمَـاواتِ وَ لاَ في الأرضِ وَ لاَ أصْـغَـر مِـنْ ذلـِكَ وَ لاَ أكْـبَرُ )[ سبأ 3 ]، ( لاَ إلـهَ إلاَّ هُـوَ خَـالِـقُ كُـلّ شَـيْءٍ )[ الأنعام 28] .

وَ التَوْحيـدُ ذاتُـهُ يَبْقى مَوْضِعَ شَـكٍّ وَ رِيبَـةِ بِدونِ العِلْـمِ : ( شَـهِـدَ اللَّـهُ أنَّـهُ لاَ إلـهَ إلاَّ هُـوَ وَ الـمَــلائِـكَـةُ وَ أولـو الـعِـلْـمِ قَائِمَـاً بالـقِـسْـطِ )[ آل عمران 18 ] .

Email