{إنَّا أنزلناه قُرآناً عَربيّاً}

ت + ت - الحجم الطبيعي

نَزَل القرآن الكريم في هذا الشـهر الفضـيل باللّغـة العـربيّة في أبْلـغِ صُـورهـا، وَقـد اختار الله سُـبحانه هذه اللغـة من بين كلّ لُغـات العَـالَم، لتكون لُغَة قُرآنه الكريم، وجعَله: (هُـدىً للنـاس) [البقرة: 185]، و(ذِكْـرٌ للعَـالمـين) [التكوير: 28]، وفي ذلك إشارةٌ واضـحة إلى أنّ اللغة العـربيّة وحـدهـا القادرة أن تكون لُغَـةً عالمـيّة بامتياز، (وَلَـوْ نَزَّلْـنَاهُ عَـلـى بَعْـضِ الأعْـجَـمِـينَ فَقَـرَأهُ عَـلَـيْهِـمْ مَـا كَـانُوا بِهِ مُـؤْمِـنينَ) [الشعراء: 198].

فَلاَ يُمْكِنُ أنْ يَكُونَ القُرْآنُ عَالَمِيَّاً، لَوْ أُنْزِلَ بأيِّ لُغَةٍ أُخْرى، لِذَلِكَ فَإنَّ (اللغَةَ العَالميةَ - الإسْـبيرانتو) تَصْلُحُ مُفرداتُ القُرآنِ لهـَا أكْثَرَ مِنْ غَيْرِهَـا، فللقُرْآنِ خُصُوصِيَّـةٌ عَجيبَةٌ هيَ إمْكَانِيَّةُ حِفْظِـهِ عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ حِفْظَـاً مَتينَـاً، دُونَ خَلَلٍ وَلاَ بِحَرْفٍ واحِـدٍ، وَدُونَ تَفْريطٍ حتّى في أيِّ حُكْمٍ مِنْ أحْكَامِ التَجْويـدِ، مَعَ أنَّ الحُفَّاظَ غَيْرَ العَرَبِ قَدْ لاَ يُدْرِكُونَ المَعَـانيَ الحَقيقيَّـةَ الكَامِلَةَ للكَلِمَاتِ التي يَحْفَظُونَهَا، حَقَّـاً: (وَلَـقَـدْ يَـسَّـرْنَا الـقُـرْآنَ للـذِكْـرِ) [القمر: 17، 22، 32، 40]. إنَّ النِسْـبِيَّةَ في القُرْآنِ الكَريمِ تَجْعَلُ مِنْـهُ كِتـابَاً عَالميَّـاً بامْتِيَـازٍ فَريـدٍ.

الـذكْـر

هُوَ الصِيْغَةُ البلاغيّةُ وَالمَقَاطِعُ الصَوتيَّةُ في القُرْآنِ الكَريمِ، وَهُوَ مِنْ أهَمِّ مَظَاهِرِ جَلالِ الرُبُوبيَّةِ للخَالِقِ تَعالى، حَيثُ نَجِدُ أنَّ كُلَّ الناسِ بِكُلَّ ألْسِنَتِهِمْ وَ ثَقَافاتِهِمْ، يَسْتَسِيغُونَ بَلْ وَيَطْرَبُونَ لِسَماعِ (الـذِكْرِ الحَـكـيمِ) [آل عمران: 58]، وَيَحْفَظُونَهُ بِكُلِّ يُسْرٍ وَسُهُولَةٍ وَيَتَفَكَّرونَ في مَعَانيهِ: (وَأنْزَلْـنَا إلـَيْـكَ الـذِكْـر لِـتُبَيِّـنَ للـنَاسِ مَـا نُزِّلَ إلَـيْـهِـمْ وَلَـعَـلَّـهُـمْ يَتَفَـكَّـرونَ) [النحل: 44]، ما يَدُلُّ فِعْلاً أنَّهُ (تَنْزيلٌ مِـنْ رَبِّ الـعَـالَـمِـينَ) [الواقعة: 80] [الحاقة: 43]، (وَإنَّهُ لَـتَنْـزيلُ رَبِّ الـعَـالَـمِـينَ) [الشعراء: 192]. ولذلك فإنّ الأمّـة العربيّـة مسـؤولةٌ عن نقْل القُرآن الكريم إلى الأمَـم الأخـرى بكلّ الأمـانة: (وإنّـهُ لَـذِكْـرٌ لَكَ ولقـومـك وسَــوفَ تُسـألون) [الزخرف: 44].

(وَلَـوْ جَـعَـلْـنَاهُ قُـرْآنَاً أعْـجَـمِـيَّاً لَـقَـالُـوا لَـوْلاَ فُصِّـلَـتْ آيَـاتُهُ أَأعْـجَـمِـيٌّ وَعَـرَبـيٌّ) [فصلت: 44]، لِذَلِكَ لاَ يُعْقَلُ أنْ يَحْتَوي القُرْآنُ الكَريمُ أيَّ كَلِمَةٍ غَيْرِ عَربيَّةٍ، وَإلاَّ لأقَامَ أهْلُ مَكَّـةَ الـدُنْيَا وَلَمْ يُقْعِدوهَـا فَوْقَ رَأْسِ النبيِّ الكَريمِ صلى الله عليه وسلّم.

وَقَد اتَّهَمَ أهْلُ مَكَّةَ الرَسُـولَ صلى الله عليه وسلّم، بأنَّـهُ كَانَ يَتَلَقَّى تَعَـاليمَهُ مِنْ فَتَىً روميِّ الأَصْلِ يَعيشُ في مَكَّةَ، هُوَ (يَسَارُ الروميّ)، فَكَانَ رَدُّ القُـرآنِ على ذَلِكَ: (وَلَـقَـدْ نَعْـلَـمُ أَنَّهُـمْ يَقُـولُـونَ إنَّمَـا يُعَـلِّـمُهُ بَشَـرٌ، لِـسَـانُ الـذي يُلِـحِـدون إلَـيْهِ أعْـجَـمِـيّ وَهَـذَا لِـسَـانٌ عَـرَبِيٌّ مُـبينٌ) [النحل: 103]، (وَلِـيَقُـولُـوا دَرَسْـتَ) [الأنعام: 105]، أيْ دَرَسْـتَ القُرْآنَ عَلى يَـدِ بَشَرٍ غَيْرِكَ.

لُــغَــةَ الآخــر

لكِنَّ ذَلِكَ لاَ يَعْـني أبـَداً إلْغَـاءَ عُـلومِ الآخَـرِ وَمُصْطَلَحاتِهِ العِلْميَّةِ وَالثَقافيـّةِ، بَلْ يَجِبُ الأخْذُ بِتِلْكَ المُصْطَلَحاتِ وَاعْتِمادِهـَا، فالقُرْآنُ الكريمُ الذي أكَّدَ في العَديدِ مِنْ آياتِهِ أنَّـهُ قُـرْآنٌ عَربيّ: (بِلِـسَانٍ عَـرَبيٍّ مُـبيـنٍ) [الشعراء: 195]، مَعَ ذَلِكَ اعْتَمَدَ وَذَكَرَ العَديدَ مِنَ المُصْطَلَحاتِ التي كانت عَربيّةِ بالأصْلِ ثُمَّ ذَهَبَتْ للثَقافات الأخْرى، حَتَّى أعَادَها القُرْآنُ مُجَدَّداً للعَـربيَّةِ، وَاعْتَمَدَهَـا كَلِمَاتٍ عَربيَّةِ أَصِيْلَةٍ بَيْنَ دَفَّتَيْهِ، كَدَليلٍ عَمَليٍّ عَلى الانْفِتاحِ عَلى الثَقافاتِ الأُخْرى غَيرِ العربيةِ: (وَمَا هُـوَ إلاَّ ذِكْـرٌ لِلـعَـالَـمـِينَ) [القلم: 52].

مِنْ هذِهِ المُصْطَلَحَـاتِ التي ذَهَبَتْ للثَقَافاتِ الأُخْرى، قَبْلَ أنْ يُعِيدَهَا القُرْآنُ للعَـربيَّةِ:

الطُـورْ: كَلِمَةٌ سِـرْيانيّةٌ بِمَعنى جَبل صَغير (وَالـطُـورِ وَكِــتَابٍ مَـسْـطُـورٍ) [الطور: 1]

الرقيـم: كَلِمَةٌ روميّـةٌ بِمَعنى لَـوْح (أصْـحَـابَ الـكَـهْـفِ وَالـرَّقـيـمِ) [الكهف: 9].

سُـورة: كَلِمَةٌ سِـرْيانيّةٌ بِمَعنى فَصْـل (سُــورَةٌ أنْزَلْـنَاهَـا وَفَـرَضْـنَاهـَا) [النـور: 1].

جَهَـنّم: كَلِمَةٌ فارسـيّة بِمَعنى القَعْر البعيد (إنَّ جَـهَـنَّـمَ كَــانَتْ مِـرْصَــاداً) [النبـأ: 21].

السِجِلّ: كَلِمَةٌ فارسـيّة بِمَعنى كتـاب (نَطْوي الـسَـمَـاءَ كَـطَـيِّ الـسِجِـلِّ لِلـكُـتُبِ) [الأنبياء: 104].

إسْتَبْرَق: كَلِمَةٌ فارسـيّة بِمَعنى سَـميك (ثِيَـابَاً خُـضْـراً مِـنْ سُــنْدُسٍ وَإسْـتَبْرَقٍ) [الكهـف: 31].

سُنْدُس: كَلِمَةٌ هنديّـة بِمَعنى رقيـق (ثِيَـابَاً خُـضْـراً مِـنْ سُــنْدُسٍ وَاسْـتَبْرَقٍ )[ الكهـف 31].

فِرْدَوْس: كَلِمَةٌ فارسـيّة بِمَعنى حَديقَـة (كَــانَتْ لَـهُـمْ جَـنَّـاتُ الــفِـرْدَوْسِ نُزُلاً) [الكهف: 107].

الطاغُوت: كَلِمَةٌ حَبَشِـيّة بِمَعنى النـِّد (يُريدون أنْ يَتَحَـاكَـمُـوا إلـى الـطَـاغُـوتِ) [النـساء: 60].

مِشْـكاة: كَلِمَةٌ حَبَشِيّة بِمَعنى كُوَّةٍ في جدار (مَـثَـلُ نُوْرِهِ كَــمِـشْـكـَاةٍ فِيـهَـا مِـصْـباحٌ) [النـور: 35]، وَغَـيْرِهـَا مِنْ مُصْطَـلَحَاتِ وَثَقَـافات الشُـعُوبِ الأخْرى.

الـنظـريّة اللـغـويّة

إنّ علاقَةُ اللُغَةِ العربيّة بالرِياضِيَّاتِ، تَظْهَرُ جلِيَّةً مِنَ المِثالِ التالي عنِ (التباديل) في الجَبْرِ، حيْث:

مِنَ (المَعاجِمِ اللّغويّةِ) نَجِدُ أنَّ أيِّ (فِعْلٍ ثُلاثيٍّ مِثْل شَهِدَ)، يُمْكِنُ أَنْ نَشْتَقَّ مِنْهُ سِـتَّ حالاتٍ هيَ:

1 _ ش هـ د عكْسُـها : 2 _ د هـ ش

3 _ ش د هـ عكْسُـها : 4 _ هـ د ش

5 _ هـ ش د عكْسُـها : 6 _ د ش هـ

فالمَطْلُوبُ هُوَ إيْجادُ (نظريّة لُغَويّة) جديْدة تُضِيْفُ أسْماءً وَمعاني جديْدة، لِكُلِّ (التباديل)، وَلِكُلِّ الأفعالِ اللغويّة، عِنْدَ ذَلِكَ نَجِدُ أنَّ اللّغَةَ العربيّةَ وَحْدها القادِرَة على اسْتيعابِ جَميعِ الأسْماءِ وَالمُصْطلحاتِ التي تَظْهَرُ مَعَ التَقَدُّمِ العِلميِّ الهائِلِ، وَهَذا ما أدْرَكَهُ بِوَعْيٍ شَاعِرُ النيلِ (حافِظ إبراهيم) قائِلاً باسمِ اللّغَةِ:

فَكَيْفَ أَضِيْقُ اليَـوْمَ عَنْ وَصْفِ آلَـةٍ وَ تَنْسِـيْقِ أسْـماءٍ لِمُخْتَـرعـَاتِ

Email