البصيرة والبصر.. نعمتان للبشر

صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

المطلوب مِنَ الإنسَان اسـتِخْدامَ بصـيرَتِهِ »قُـدراتِـهِ العقليـّة وَحَـدْسـِهِ السـليم في تَحليل الأمور وفَهْمِها«، وَليْسَ بَصَرَهُ »كَحاسّـة مِنَ الحـواس الخمس«، فالبَصَرُ حاسّـةٌ يُمْكِنُ خِداعُهَا: (وسَـحَـروا أَعْـيُنَ الـنَاسِ) الأعراف: 116، (لَـقَـالوا إنَّمَـا سُـكِّـرَتْ أَبْصَـارُنا بَلْ نَحْـنُ قَـوْمٌ مَـسْـحُـورون) الحجر: 15، كمَا أنّـه مَحـدودُ المَجـالِ: (يَنْقَـلِـبْ إلَـيْـكَ الـبَـصَـرُ خَـاسِـئَـاً وَهُـو حَـسـيرٌ) الملك: 4.

أحسن تقويم

فالإنسَـانُ الذي هُو مُعْجِـزَةُ الخَالِق، أكْثـَرُ مِنْ أنْ يَكُونَ مُجَـرَّدَ حَـواسٍّ ظـَاهِرَةٍ [عيونٌ وَآذانٌ وأنفٌ ولسانٌ وجِلْدُ...]، بَلْ هو عَقلٌ ونَفْسٌ ووِجْدانٌ ومُسْتَوْدَعُ الأسْرارِ الإلهيّةِ، وقدْ صُمّمَ وخُلِقَ بأفْضَلِ المواصَفَاتِ: (لَـقَدْ خـَلـقْـنَا الإنْسَـانَ فـي أَحــْسَـنِ تَقْويمٍ) التين: 4، فهو يسْتطيعُ أنْ يَتَكلّمَ بِلاَ لِسَانٍ ويَسْمَعُ بِلاَ آذانٍ ويُبْصِرُ بِلاَ أعْيُنٍ، فَقَدْ رأى الكثيرُ مِنَ العُمْيانِ مِثْلَ: (أبو العَلاءِ المعريِّ 973 - 1057م) بالبَصِيرَةِ، مَا لَمْ يَـرَهُ غيرهُمَ مِنْ ذَوي البَصَرِ،..

والحقائِقُ السَاميَةُ تَحتَاجُ إلى بَصِـيرَةٍ ولَيْسَ إلى بَصَـرٍ: (بَلِ الإنْسَـانُ عَـلـى نَفـْسِــهِ بَصـِيرَةٌ) القيامة: 14، ومَشَاعِرُنا العَميقَةُ تَعْجَزُ حَوَاسُنا الظَاهِرَةُ عَنِ التعْبيرِ عَنْهَا بِشَكْلٍ كامِلٍ، وقَدْ رَأى الرسُولُ صلى الله عليه وسلم بِبَصـيرَتِهِ لَـيْلـَةَ المِعْراجِ: (مَـا كَـذَبَ الـفُـؤادُ مَـا رأى... لَـقَـدْ رَأى مِـنْ آيَاتِ رَبِّهِ الــكُـبْرى) النجم: 11/ 18، فنُلاحظُ أنّ الرؤية كانتْ بالفؤاد، بَعْدَ أنْ أبْصَرَ بِبَصَرِهِ الشَريف: (مَــا زَاغَ الـبَصَـرُ ومَـا طَـغَـى) النجم: 17.

البصائر

البَصَائِرُ التي أنْزَلَهَا اللّهُ تعالى: (قَـد جَـاءَكُـمْ بَصَـائِـرُ مِـنْ رَبِّكُـمْ فَـمَـنْ أبْصَرَ فَلِـنَفْـسِـهِ ومَـنْ عـمِـيَ فَـعَـلَـيْـهَـا) الأنعام: 104، و[أبْصَرَ] تعني: البصيرة وليس البصَر، وكلمة [عميَ] تعني: [عـَمَـه] البصيرة، (مَـا يُوحَـى إلـيَّ مِـنْ رَبِّـي هـَذا بَصَـائِـرُ) الأعراف: 203، (هَـذا بَصَـائِـرُ لِلـنَاسِ) الجاثية: 20، هَذِهِ البَصَائرُ تَحْتاجُ لِلبَصيرَةِ التي يَمتَلِكُهَا كلُّ إنسَانٍ (تَبْصِـرَةً وذِكْـرى لِـكُـلِّ عَـبْدٍ مُـنيْبٍ) ق: 8، ونحنُ في شهر رمضان المبارك، الشهر الذي اُنزلتْ فيه هذه البصـائر، فعلينـا قراءة القرآن بالبصـيرة وليس بالبصَـر فقط.

والبَصـيرَةُ هيَ المعْيـَارُ والمقياسُ لإنسَـانيّةِ الإنْسَـانِ، فَبِدونِ البصيرَةِ لاَ يَكُونُ الإنسانُ إنْسَـاناً: (كَـثيراً مِـنَ الـجِـنِّ والإنْـسِ لَـهُـمْ قُلـوبٌ لاَ يَفْـقَهونَ بِهَـا ولَـهُـمْ أَعْـيُنٌ لاَ يُبْصِـرونَ بِهَـا ولَـهُـمْ آذانٌ لاَ يَسْـمَـعـونَ بِهَـا) الأعراف: 179.

لِذَلِكَ كانَتْ آياتُ القرآنِ لأصْحَابَ العـُقولِ والبَصَائِرِ فَقطْ: (نُفَـصِّـلُ الآيَاتِ لِـقَـوْمٍ يَعْـقِـلُـونَ) الروم: 28، (إنَّ فـي ذَلِـكَ لآيَاتٍ لِـقَـوْمٍ يَعْـقِـلُـونَ) الروم: 24، (لِـقَـوْمٍ يَعْـقِـلُـونَ) العنكبوت 35، (لآيَاتٍ لأُولـي الألْـبَابِ) آل عمران: 190...

(إنَّ الـذينَ اتَّـقَـوْا إذا مَـسَّـهُـمْ طَـائِـفٌ مِـنَ الـشَـيْـطَـانِ تَـذَكَّـروا فَـإذا هُـمْ مُـبْـصِـرونَ) الأعراف: 201، و[مبصرون]: مـن البصـيرة وليس البصـر، لأنّ البَصَـرَ لا يُـدْرِكُ مَـسَّ الـشَـيْطانِ الجِنّـي.

الـعـمـى والـعَـمَـه

إنَّ البَصَـرَ هُو إحدى الحَواسّ الخَمْس، عَنْ طَرِيْقِ العَيْنِ، مِنْ أَجْلِ رُؤْيَةِ الأَشْيَاءِ، وهَذَا البَصَرُ في العَيْنِ يُصِيْبُهُ [العَمَى]، أمّا البَصِيْرَةُ: فَهِيَ الإدْراكُ وفَهْمُ الأشْيَاءِ عَلى حَقيْقَتِها ومَعْرِفَةُ النَتَائِجَ الناجِمَةِ عَنْهَا، وتَكُونُ هَذِهِ البَصِيْرَةُ عَنْ طَرِيْقِ الفِكْرِ، وَهيَ التي يُصِيْبُهَا [العَـمَـهُ]، ولِكُلِّ إنْسَانٍ بَصِيْرَةٌ عَلى نَفْسِهِ، ولاَ عُذْرَ لـَهُ في عَدَمْ إدْراكِ وفَهْمِ اُمُورِ الحَيَاةِ.

وعَـمى الأَعْيُنِ لَيْسَ القَضِيَّةَ الأسَاسِيَّةَ في حَيَاةِ الإنْسَانِ، ولَكِنْ عَـمَـهُ الفِكْرِ هُو القَضِيَّةُ الأهَمّ: (فإنَّهَـا لاَ تَعْـمَـى الأَبْصَـارُ ولَـكِـنْ تَعْـمَـى الـقُـلُـوبُ الـتي في الـصُـدورِ) الحج: 46، فالذِيْنَ لاَ يَفْهَمُونَ حَقَائِقَ الأُمُورِ وأَبْعَادَهَا، هُمْ في حَالَةِ طَيْشٍ دَائِمٍ، مثْلَهُمْ مِثْلَ السكَارى: (لَـعَـمْـرُكَ إنَّهُـمْ في سَـكْـرَتِهِـمْ يَعْـمَـهُـونَ) الشعراء: 71، فَهُنَاكَ مَنْ يَنْظُرْ بِالبَصَرِ لَكِنَّهُ لاَ يَرى بِالبَصِيْرَةِ: (وتَراهُـمْ يَنْظُـرونَ إلَـيْكَ وهُـمْ لاَ يُبْصِـرونَ) الأعراف: 198، أيْ: ينظرون بالبصَر ولكنْ لا يُبصرونَ بالبصيرة، ومَرْكَزُ (البَصَرِ) يَكُونُ في العَيْنِ، أمّا مَرْكَزُ (البَصِيْرَةِ) فَيَقَعُ فَوْقَهَا مُباشَرَةً، حَيْثُ يَأْتي الخَطَأُ والكَذِبُ: (نَاصِـيَةٍ كَـاذِبَةٍ خَـاطِـئـَة) العلق: 16.عمى العين وعَمَه البصيرة

 ومِنَ الأمْثِلَةِ عَـلى (العَمى) و(العَـمَهُ): إنَّ عَيْنَ السَائِقِ السَليْمَة تَرى بِبَصَرِهَا أَنَّ إِشَارَةَ المُرورِ حَمْراءَ، فالسَائِقُ في هَذِهِ الحَالَةِ لَيْسَ لَدَيْهِ (عَمى) في البَصَرِ، وعِـنْدَمَا تَتَّخِذُ النَاصِيَةُ القَرارَ الخاطئ بِتَجَاوُزِ هَذِهِ الإشَارَةِ، عِنْدَهَا يَكُونُ لَدى هَذَا السَائِقِ (عَمَه) في بَصِيْرَتِهِ، وعِنْدَ الحًصُولِ على إجَازَةِ قِيَادَةِ المَرْكَباتِ، يَتُمُّ فَحْصُ (البَصَرِ) فَقَطْ، مِنْ اَجْلِ الحُصُولِ عَلى تِلْكَ الإجَازَةِ، ولَيْتَها تُوجَدُ وَسِيْلَةٌ أُخْرى مِنْ أَجْلِ فَحْصِ (البَصِيْرَةِ)، عِـنْدَ ذَلِكَ فَـقَطْ لَنْ نَرى مُخَالَفَاتٍ في السَيْرِ.

Email