التربية .. أصالة وأخلاق وصبر جميل

ت + ت - الحجم الطبيعي

 

تقوم التربيــة على أسُـسٍ عدّة، أهمـهـا الأصـالة والأخلاق والصـبْر الجميل، فالأصـالة: هي ضـميرٌ طـاهر، وفكْرٌ وامضٌ، وقلْبٌ نابضٌ، وقَدَمٌ ثابتٌ، ويَـدٌ ممدودةٌ بالخير، فَـلا يُخْـرِجُكَ عمـلُكَ عن ضـميرك، والإيمـانُ يحتاجُ إلى وعي، وُمشكلةُ كلّ أصحاب دينٍ أنّهُم لا يعُونَ مَـا هُم مؤمنونَ بـه، ولـوْا وعوا لَمـَا تنازعُـوا وكَـفّر بعضَـهُم بعْضـاً، وضَعْفُ النُفوس وعَدَمُ تفهّم الأديان بشكْلٍ واعٍ هُـوَ الذي جاء بكلّ هذه التفرقة وهذا النزاع والاختلاف، فَـدَعْ قُـوّةَ رأيكَ تفـرِضُ نفسـها وليْسَ قُوّةَ يَـدِكَ، فقـد أوضـح الله سُـبحانه أنّ الرُسُل الكرام عليهم الصلاة والسلام قـد جـاؤوا بالرسالات من أجْل إعـادة توحيد الناس، وحلّ كلّ الخلافات بينهُم بالحكمة والموعظة الحسنة، فقال: «فبَعَـثَ الله النبييّنَ مُبشّـرينَ ومُنذرينَ وأنزل معهُم الكتابَ بالحقّ ليحكم بين الناس فيمـا اختلفوا فيـه» البقرة 213، لذلك يجب أن تسودَ المحبّة والتآخي بين الجميع، وأن يسودَ التعاون والعطاء، وألا يحلّ «ذكاءُ الشطارة» مكانَ «توهّج العبقريّة» في المُجتمع.

العُـسْـرُ والـيُـسْـرُ:

إنّ العُسـرَ واليُـسْــرَ ليْسـا خـيْراً أوْ شَـرّاً بحـدّ ذاتهمـا، بلْ يكونان خـيْراً أوْ شَـرّاً بقَـدْرِ مّـا يُمـليانهِ عـلـيكَ منْ شُـعورٍ، فالكلامُ الفاسِـدُ يُفْسِـدُ النفْـسَ ويُزوّدَهـا بالطـاقة السـلبيّة الضـارّة، والكـلامُ الطـيّبُ يُزوّدُ النفْسَ بالطـاقة الإيجـابيّة المُباركة، أيْ بالطـاقة الحيويّة، وأحْسَـنُ الحديث وأصْـدَقُهُ هـوَ: كـلامُ الله تعالى، لذلك يُزوّدُ القرآن الكريم الذي نزلَ في هذا الشهْر المُبارك، والذي يُتـلى أكـثر ما يُتلى في هذا الشهر بالذات، يُزوّدُ سـامعه بالطـاقة النورانيّة السامية المُباركة، لأنّ القرآن الكريم بحد ذاته هو روحٌ منَ الله: «وكـذلكَ أوحـيْنـا إليْـكَ روحـاً منْ أمْـرنا» الشورى 52.

الصـبْر الجـمـيـل:

على ربّ الأسْـرةِ أنْ يتحلّى بالصـبْر الجميل، خاصّةً على أفْـراد اُسـرته، والـبْرُ الجميلُ: هو الصَـبْرُ بدون شكوى، ومثال ذلك يعقوب عليه السلام الذي كان يقول لأولاده دومـاً: «فَـصَـبْرٌ جمـيل» يوسف 18، وقدْ كَظـمَ غـيظـه حتّى ابيضّتْ عـينـاه: «وابيضّـتْ عيناهُ منَ الحُـزْن فهـوَ كَـظيم» يوسف 84، مع ذلك كان قوله: «إنـّمـا أشْـكو بـثّي وحُـزْني إلى الله» يوسف 86، ونحنُ الآن في شهْر الصَبْر، والـبْرُ هو الشرْطُ الأساسُ لدخول الجنّة لقوله تعالى: «ومَـا يُـلقّـاهـا إلاّ الذين صـبروا ومَـا يُـلقّاهـا إلاّ ذو حـظّ عظيم» فصلت 35، «ومَـا يُلقّاهـا إلاّ الصـابرون» القصص 80، ولذلك يجب العمَل بقوله تعالى: «يا أيّهـا الذين آمنـوا اصْـبروا وصَـابروا ورابطـوا» آل عمران 200، فللصـبر مـراتب:

_ التَصَبُّرُ: وَ هُوَ الصَبْر بِتَكَلُّفٍ، وَ هُوَ أدْنى المراتِبِ.

_ الصَبْرُ: وَ هُوَ الصَبْرُ دونَ مَلَلٍ، وَ هُوَ الحَالَةُ الوُسْطى.

_ الصَبْرُ الجميلُ: وَهُوَ السِمَةُ الأسَاسيَّةُ للشَخْصِ، كَصَبْرِ يَعْقُوب وأيّوب عليهما السلام.

من سورة يوسف:

الجَانِبُ التربويُّ الأَهمُّ هُو إفْسَاحُ المَجَالِ لِلوَلَدِ كَيْ يلعبَ «أَرْسِلْـهُ مَعَـنَا غَداً يَرْتَعْ وَ يَلْعَـبْ» يوسف 12، وَ الجَانِبَ المهَمُّ في لَعِبِ الوَلَدِ هُوَ أنْ يَرْتَعَ في لَعِبِهِ، لاَ أَنْ يَجْلِسَ السَاعَاتِ الطِوالَ أَمَامَ الألعَاب الإلكترونيَّةِ مُعْتَمِداً عَلى حَاسَّةِ البَصَرِ، فَيَصْبح إنسَاناً بَصَرياً، وَ في ذَلِكَ خَطَرٌ كبيرٌ في إنشَاءِ جيلٍ بَصَري حادّ الطباع، وانفعاليّ ويتصرّف بعدم انضباطٍ.

وَ مِنَ الجوانِبِ الترْبَويَّـةِ الأُخْرى في سُورَةِ يوسُفَ، عَدَمُ تَكْذيبِ الأَوْلاَدِ، وَلَوْ كَانَ كَذِبَهُمْ أَكِيداً، فيعْقوبُ هُوَ الذي هيَّأَ المكيدَةَ لأَوْلاَدِهِ «وَ أخَـاف أَنْ يَأْكٌـلَـهُ الـذِئْـبُ» يوسف 13، فَعَادوا عِنْدَ العِشَاءِ حَيْثُ حَلَّ الظَلاَمُ وَيَصْعُبُ البَحْثُ عَنْ يُوسُفَ «وَجَـاؤوا أَبَاهُمْ عِـشَـاءٍ يَبْكُونَ قَالوا يا أَبَانَا إنّا ذَهَـبْنَا نَسْـتَبِقُ وَتَرَكْـنَا يُوسُـفَ عِـنْدَ مَـتَاعِـنَا فَأَكَـلَـهُ الـذِئْـبُ» يوسف 17، وَمَعَ أَنَّ يَعْقوبَ كانَ مُتأكِّداً مِنْ عَدَمِ صِدْقِهِمْ، لأنّه يَعْلمُ أَنَّ يُوسُفَ سَيكونُ لَهُ شَأْنٌ عَظيمٌ في المسْتَقْبَلِ، مَعَ ذَلِكَ لَمْ يَقُلْ لَهُمْ إنّهُمْ كَاذِبونَ، بلْ أفْهَمَهُمْ أَنَّ كَلاَمَهُمْ غَيرُ صَحيحٍ «قَالَ بَلْ سَـوَّلَـتْ لَـكُـمْ أَنْفُسُـكُـمْ أَمْـراً فـَصَـبرٌ جَـمِـيلٌ » يوسف 18.

وَ قَدْ تَحَمَّلَ يعقوبُ مِنْ أَذَى أَوْلاَدِهِ أَكْثَرَ مِمّا تَحَمَّلَهُ يوسُفَ بِكَثيرٍ، فَفي آخِرِ السُورَةِ نَجِدُ بالمقَارَنَةِ، أَنَّ الإخْوَةَ قالوا ليوسُفَ: «قَالُـوا تَاللَّـهِ لَـقَدْ آثَرَكَ اللَّـهُ عَـلَـيْنَا وَإنْ كُـنَّا لَـخَـاطِـئِـينَ» يوسف 91، فَكَانَ جَوَابُ يُوسُفَ: «قَالَ لاَ تَثْريبَ عَـلَـيْكُـمُ الـيَوْمَ يَغْـفِرُ اللَّهُ لَـكُـمْ وَهَوَ أَرْحَـمُ الراحِـمِـينَ » يوسف 92، نُلاَحِظُ أَنَّـهُ قالَ: اليومَ يَغْفِرُ اللَّـهُ لَكُمْ وَفَوْراً، بَيْنَمَا يَعْقُوبُ: «قَالَ سَـوْفَ أسْـتَغْـفِرُ لَـكُـمْ رَبّي إنَّهُ هُـوَ الـغَـفُورُ الرَحِـيمُ» يوسف 98، فَالمُلاَحَظُ أنَّـهُ قالَ: «سَوْفَ»، وَهِيَ للمُسْتَقْبَلِ البعيدِ، بينمَا قالَ يُوسُفُ: «اليومَ»، وَذَلِكَ لِكَثْرَةِ مَا عَـانى يَعْقُوبُ مِنْهُمْ أَكْثَرَ مِمَّا عَـانى يُوسُفُ بِكَثيرٍ، كَمَا قالَ يَعْقُوبُ: «إنَّهُ هُـو الـغَـفُـورُ الـرحِـيمُ»، بَيْنَمَا قالَ يُوسُفُ: «وَ هُـوَ أَرْحَـمُ الـراحِـمـينَ»، فَالبَطَلُ الحقيقيُّ للقِصَّةِ الذي عَانـى فِعْلاً هُوَ يَعْقُوبُ.

شريكة الحياة

 

يجبُ ألا يُخرجُكَ العُسْـرُ واليُسْـرُ عن الأخلاق، على سـبيل المثال: زوجتُكَ ليْستْ عبدةً بينَ يَديْك ولا أنتَ مولاهـا، بلْ هيَ: أمّ أولادكَ جَسَـديّاً فلهـا عليْكَ حـقّ المـودّة، وهي أخْتُكَ في الدين فلهـا عليْكَ حقّ الاعتبار، وهي شريكةُ حياتك مصيريّاً، فلهـا عـليْك حـقّ حُسْـنٍ المُعاشـرة، وفي هذا الشهر المُبارك يجب أن يزول كُرْهُ الزوجات، ويتبدّل ذلك إلى محبّة وتآلفٍ، بدل أن يزيد الكُرْه بحُجّة الصـيام، فقد قال تعالى «فإن كـرهتموهُنّ فعسـى أن تكـرهُوا شـيْئاً ويجْعلَ الله فيه خـيْراً كـثيراً» النساء 19، وهذا هو شهْرُ الخير الكثير، وبذلك تتحقّق مكارم الأخلاق، التي أُرسل صلى الله عليه وسلّم كيْ يُتمّمَـها.

Email