رغم تبدّل إيقاع الحياة والظروف

طرابلس اللبنانيّة.. حضور أصيل بالشهر الفضيل

صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

ثمّة مذاق خاصّ لشهر رمضان المبارك في مدينة طرابلس، التي تكاد أن تكون الوحيدة من بين سائر المدن في لبنان التي ينتبه الداخل إليها، ولا سيما في الأحياء القديمة منها، إلى الحضور الأصيل للشهر الفضيل بكامل طقوسه والاحتفال به ومظاهر إتمامه.

ورغم تبدّل إيقاع الحياة والظروف التي غيّرت الكثير من معالم المدينة وتقاليدها، إلا أن أهل طرابلس يحرصون على الاحتفاظ ببعض العادات الأصيلة، ومنها «جوقة وداع رمضان»، وزيارة «الأثر الشريف» في المسجد المنصوري الكبير خلال آخر يوم جمعة من رمضان.

وفي العشر الأواخر من رمضان، تجوب فرق «الوداع» شوارع طرابلس، حاملة طبولها وصنوجها وفوانيسها، وتنتقل بين الأحياء لتوديع الشهر الكريم، برفقة المنشدين الذين يهلّلون وينشدون ويكبّرون، ويغنّون الموشّحات الدينية على وقع الطبول ونقر الدفوف وإيقاع الصنوج. وغالباً ما تكون جوقة الوداع مطعّمة بمجموعة من أصحاب الطرق الصوفية.

ومن شباب جوقة الوداع من يحمل المشاعل، ومنهم من يحمل المصابيح والفوانيس، ومنهم من ينقر على الدفوف أو يهزّ المزاهر، فتنقلب حياة طرابلس في الليالي العشر الأخيرة من رمضان، وكأنها في مهرجان فرح روحي وديني.

مشاهد المناجاة والابتهال لله، أناشيد دينيّة («إلى مُحياك نور البدر يقتدر»، «ينبض القلب»، «بدر الدجى لجمال وجهك عاشق»، «طلع البدر علينا»، وغيرها)، «فتلة التنورة»، استحضار أشعار ابن الفارض وابن عربي والحلاج ورابعة العدوية وغيرهم من شعراء الصوفية..

ولا يزال أهالي طرابلس إلى اليوم ينتظرون «الوداع» في رمضان، حيث يصدح به المنشدون: «شهر الصيام لقد عزم على الرحيل.. ولم يبقَ منه سوى القليل»، فيقرع زملاؤهم الطبول والصنوج، ويتحلّق الأطفال حولهم ويجوبون معهم في الأسواق والمقاهي وينتظرونهم عند مداخل الأبنية السكنية. ويُعتبر «الوداع» من التقاليد الرمضانية المحبّبة إلى قلوب أبناء طرابلس، والذي لا تزال تحافظ عليه منذ أكثر من 300 سنة، وتنفرد باحتضانه دون كثير من المدن.

ويقول المؤرّخون إن تاريخ «الوداع» يعود إلى العهد العثماني، حيث كان بعض كبار مشايخ الطرق الصوفيّة يقومون، بتكليف من السلطان العثماني آنذاك، بجولات في مختلف شوارع وأحياء وأزقّة طرابلس، حاملين الطبول والصنوج وقناديل الإنارة، ترافقهم فرقة من المنشدين الذين يردّدون المدائح النبوية، وينطلقون بمسيرات لتوديع رمضان وجمع التبرعات من الأهالي لتوزيعها على بعض الفقراء والمساكين..

ولتغطية مصاريف العاملين في تلك الفرق. وفي عهد السلطان عبد الحميد الثاني جرى تنظيم «الوداع»، فتسلّم مهمته الشيخ حسن القدوسي الذي عمل على إنشاء بعض الفرق، يرأس كل واحدة منها «شيخ طريقة صوفية»، وذلك لتوزيع العمل بحسب المناطق. ولا تزال تلك الفرق تعمل حتى اليوم، ويتوارثها أبناء المدينة جيلاً بعد جيل، بحسب الفرمان العثماني الذي لا يزال ورثة الشيخ حسن القدوسي يحتفظون به.

الأثر الشريف

وفي يوم الجمعة الأخير من رمضان، ينشغل أهالي طرابلس بزيارة «الأثر الشريف» في الجامع المنصوري الكبير (أكبر مساجد المدينة)، الذي يضيق بالمؤمنين الذين يفدون إليه من كل حدب وصوب، لتقبيل «الأثر الشريف» والتبرّك به، مرتين فقط: المرّة الأولى عقب صلاة فجر يوم الجمعة، والمرّة الثانية عقب صلاة ظهر يوم الجمعة.

و«الأثر الشريف» عبارة عن شعرة واحدة من لحية الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم)، يقال إن السلطان العثماني عبد الحميد الثاني كان أهداها الى طرابلس عام 1891، مكافأةً لأهلها على إطلاق اسمه على الجامع الذي يقوم في حارة النصارى. وقد تمّ بناء غرفة خاصة ألحِقت بالمسجد، عرفت بـ«غرفة الأثر الشريف»، حيث توجد الشعرة المعطّرة بالمسك داخل علبة من الذهب الخالص. والغرفة تستخدم على مدار السنة في تعليم وتحفيظ القرآن الكريم والسيرة النبوية المطهرة.

Email