الوصل والفصل في القرآن

Sheikh Majed bin Mohammed Al Maktoum Opening the Islamic Art Ara Gallery in Downtown Burj Khalifa Dubai June 04,2013 Photo By Mohan

ت + ت - الحجم الطبيعي

جاء في كتاب البيان والتبيين للجاحظ أن رجلاً مرَّ بأبي بكر الصديق رضي الله عنه ومعه ثوب، فقال له الصديق: أتبيع الثوب؟ فقال الرجل: لا عافاك الله، فقال له أبو بكر رضي الله عنه: لقد عُلِّمتم لو كنتم تعلمون، قل: لا وعافاك الله.

هذا الخبر يذكرنا بباب عظيم من أبواب البلاغة، يسميه أهل هذه الصناعة «باب الوصل والفصل» والمقصود من الوصل هو عطف بعض الجمل على بعضها، والفصل ترك ذلك العطف وتميز إحدى الجملتين عن الأخرى. وقد أشاد العلماء بهذا الفن، فقال فيه جلال الدين القزويني في كتابه الإيضاح في علوم البلاغة: (فنٌّ عظيم الخطر، صعب المسلك، دقيق المأخذ، لا يعرفه على وجهه ولا يحيط علماً بكنهه إلا من أوتي في فهم كلام العرب طبعاً سليماً، ورزق في إدراك أسراره ذوقاً صحيحاً).

وتأتي أهمية موضوع الفصل والوصل بوصفه واحداً من الموضوعات التي جعلها بعض البلاغيين حداً للبلاغة، إذ قيل لأبي علي الفارسي: ما البلاغة؟ قال معرفة الفصل والوصل. فالقدرة على التمييز بين مواضع الجمل التي يناسبها الوصل أو الفصل هو المدار الذي يدور عليه هذا الفن، قال القزويني: (وتمييز موضع أحدهما من موضع الآخر على ما تقتضيه البلاغة، فنٌّ عظيم).

أمثلة من القرآن

ومن الأمثلة التي وردت في القرآن ورصدها أهل اللغة قول الله تعالى: (وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنَّا معكم إنما نحن مستهزئون الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون) وهنا يتساءل أهل البلاغة لم ابتُدئ بقوله تعالى: (الله يستهزئ بهم) ولم يُعطف الكلام على ما قبله رغم اتصال المعنى في الظاهر، فمن الممكن في غير القرآن أن يقال: فالله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون.

أجاب الزمخشري عن هذا الإشكال فقال: (هو استئناف في غاية الجزالة والفخامة، وفيه أن الله عز وجل هو الذي يستهزئ بهم الاستهزاء الأبلغ الذي ليس استهزاؤهم إليه باستهزاء، ولا يؤبه له في مقابلته لما ينـزل بهم من النكال ويحل بهم من الهوان والذل، وفيه أن الله هو الذي يتولى الاستهزاء بهم انتقاماً للمؤمنين، ولا يحوج المؤمنين أن يعارضوهم باستهزاء مثله).

وقد يأتي الكلام في سياق معين مفصولاً، ويأتي الكلام نفسه في سياق آخر موصولاً، ومن الأمثلة القرآنية على هذا النوع قول الله تعالى في سورة البقرة:

(وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم) (البقرة: 49) وجاءت الآية في سورة إبراهيم على نفس النحو، قال تعالى: (وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم إذ أنجاكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب ويذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم) (إبراهيم: 6) ففي سورة البقرة قال: (يسومونكم سوء العذاب يذبحون..) وفي سورة إبراهيم قال: (يسومونكم سوء العذاب ويذبحون..) بزيادة الواو، فما السر في ذلك؟!

توضيح

أجاب المفسرون عن ذلك بقولهم: إنَّ قوله تعالى (يسُومونكم سوءَ العذاب) فيه إجمال للعذاب، جاء تفصيله بقوله تعالى (يذبّحون أبناءكم) فهي بدل اشتمال توضح نوع العذاب. والأصل في ذلك الوصل، لا الفصل، إلا أن السياق في سورة إبراهيم يقتضي تعداد النعم، فقد سبقه قول الله تعالى: (وذكِّرهم بأيام الله) وقوله تعالى: (اذكروا نعمة الله عليكم)، فناسب هنا العطف الذي يؤدي هذا المعنى الدقيق.

ولا يقتصر الفصل في القرآن على حذف الواو، بل قد يكون الفصل باستخدام أدوات العطف التي تفيد الترتيب والتراخي، ومن ذلك قوله تعالى: (قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين) (الأنعام: 11) وجاء في سوَر النمل والعنكبوت والروم (قل سيروا في الأرض فانظروا..) فمرة كان العطف بـ(ثم) التي تفيد الترتيب والتراخي، ومرة كان العطف بـ(الفاء) التي تفيد الفورية، فما السر في ذلك؟!

الجواب أن حرف العطف (ثم) للتراخي الرتبي، فإن النظر في عاقبة المكذبين هو المقصد من السير في الأرض، وهذا لا يحصل إلا بعد المسير. أمَّا حرف العطف الفاء فيفيد التعقيب والفور وإنما اسُتخدم هنا للإشارة إلى سوء عاقبة تلك الأمم التي سادت ثم ما لبثت أن بادت، والفورية تدل على سرِّ ذهاب ملكها وكأنها لم تغنَ بالأمس.

ولما كان السياق في سورة الأنعام يتضمن الإشارة إلى كثرة تلك الأمم، وذلك في قوله تعالى: (ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن) وقوله تعالى: (وأنشأنا من بعدهم قروناً آخرين) وهذا يدل على أن الهالكين كُثر، والسير في ديارهم ومساكنهم يحتاج إلى زمان ومدة طويلة، لم يناسب ذكر فاء التعقيب هنا. أما بقية المواضع فلم يسبقها تعداد للأمم، إنما المقصود بيان عاقبة المجرمين، وهذا يناسبه الفور والتعقيب، والله أعلم.

وقد جاء في الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا حلف أحدكم فلا يقل ما شاء الله وشئت، ولكن ليقل ما شاء الله ثم شئت) (أخرجه ابن حبان)، وذلك لأن الواو تقتضي المساواة فكأنه ساوى مشيئة المخلوق بمشيئة الخالق، أما (ثم) فتفيد الترتيب فتكون مشيئة الله عز وجل ثم مشيئة المخلوق.

وهذا الحديث يدل على أهمية موضوع الفصل والوصل في اللغة العربية، وأنه من الأبواب الدقيقة التي قلَّ من يفطن لها إلا من أوتي توفيقاً من الرحمن، ثم أوتي حظاً من الفهم والبيان.

Email