مقاصد أسماء السور في القرآن الكريم

ت + ت - الحجم الطبيعي

من كلام الخالق عز وجل وبلاغة قوله في الذكر الحكيم؛ القرآن الكريم، نغوص في تفاصيل الحروف ونبحر في كمال المعاني، لنرسم لقرائنا الأعزاء أجمل الصور الكتابية على هيئة أسرار ربانية بديعة. هذه الأسرار التي نستشفها من آيات قرآنية، تجسد بجمال تعابيرها واكتمال معانيها، كل ما لا يستطيعه بشر ولا يقوى عليه مخلوق. فيها تجد الكلمة الأوفى والصورة الأنقى والإعجاز الأبقى، فيها أيضاً القول الفصل لكلام الخالق ذي الكمال، فليس أبلغ من كلام الله عز وجل قولاً. هو أصدق الحديث كلاً وجزءاً، وهو أوفى فاتحة وأكمل خاتمة، إنه القرآن الكريم الكتاب المحفوظ الذي لا ينقص تلاوة وإبحاراً واستزادة في العلم والنور؛ ولقارئه السرور.

«بديع الأسرار» محطة رمضانية ارتضيناها لكم من أنوارنا «أنوار رمضان»، لنمتع العقول ونقنع القلوب، بكلمات ربانية تتجلى فيها كل المسميات الحصرية؛ فيها الجمال والكمال والمثال، والإيحاء والوفاء والبناء؛ والتمام ختام.

 قال ابن القيم، رحمه الله، في كتاب زاد المعاد في هدي خير العباد في الفصل المتعلق باختيار الأسماء الحسنى ما نصُّه: (لما كانت الأسماءُ قوالبَ للمعاني ودالةً عليها، اقتضت الحكمة أن يكون بينها ارتباط وتناسب، وأن لا يكون المعنى معها بمنزلة الأجنبي المحض الذي لا تعلق له بها، فإن حكمة الحكيم تأبى ذلك والواقع يشهد بخلافه..).

وأكد ابن القيم مسألة مهمة، وهي ارتباط الأسماء بالمسميات. كما لاحظ إمكانية العبورِ من المسميات إلى الأسماء، والعبورِ من الأسماء إلى المسميات. وذكَّرَنا رحمه الله كيف استبشر النبي عليه الصلاة والسلام يوم الحديبية باسم سهيل بن عمرو الذي جاء مفاوضاً من قبل قريش، فقد علم بقدومه فقال: (سَهُل أمركم). وجاء أيضاً في الصحيح عن سعيد بن المسيب عن أبيه أنَّ أباه جاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام فقال:

(ما اسمك؟) قال حَزْنٌ، قال: (أنت سَهْلٌ)، قال لا أغير اسماً سمانيه أبي. قال ابن المسيب فما زالت فينا الحزونة بعد. وهذه الآثار والأخبار فيها دليل قاطع على ارتباط الاسم بالمسمى ارتباط الروح بالجسد.

مسميات

إذا تقرر هذا، علمنا أنَّ العبور من أسماء السور إلى مسمياتها، أو العبور من مسمياتها إلى أسمائها أمر ممكن. ولعل أول من تطرق إلى هذه المسألة هو برهان الدين إبراهيم بن عمر البقاعي، وذلك في كتابه "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور". وقد قال في مقدمة الكتاب: (ويصلح أن يسمى: المقصد الأسمى في مطابقة اسم كل سورة للمسمى).

حاول البقاعي في هذا الكتاب الوقوف على أهم المعاني في كل سورة من سور القرآن، وبعد ذلك يجتهد في معرفة المقاصد الأساسية في السورة، استعداداً لربط تلك المعاني والمقاصد باسم السورة.

وليس المقصود هنا أن ننقل بعض الأمثلة مما أورده البقاعي. إنما نحاول أن نضع بعض الأدوات، التي تعين القارئ لسورة من السور على معرفة وجه الارتباط بين مقاصد السور وأسمائها.

معنى

يعتبر النظر إلى المعنى المتكرر في السورة من أهم الأدوات المعينة على فهم المقصد من السورة، ومن ثَـمَّ ربط تلك المعاني والمقاصد باسم السورة. كما أن النظر إلى مقدمة السورة وخاتمتها يساعدنا بشكل كبير على معرفة المقاصد. وإذا كان اسم السورة يتعلق بنبي من الأنبياء، فإن معرفة قصة ذلك النبي وعلاقتها بالمعاني المتكررة والمقاصد المستنبطة وخاتمة السورة أمرٌ غاية في الأهمية.

ويمكننا أن نلاحظ ذلك من خلال قراءتنا لسورة يونس عليه السلام، فقد تكرر الحديث عن الوحي واتباع ما أنزل الله في مقابلة استهزاء الكفار الذين لا يرجون لقاء الله واستعجالهم للعذاب إنكاراً له واستبعاداً لوقوعه. قال تعالى: (ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضي إليهم أجلهم فنذر الذين لا يرجون لقاءنا في طغيانهم يعمهون) (يونس:11).

فالأنبياء جميعاً مأمورون باتباع الوحي كما أُنزِل، والصبر على أذى الكفار حتى يحكم الله تعالى بينهم. قال تعالى: (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم) (يونس: 15).

آيات

ولما كان الكفار يطلبون من الأنبياء عليهم السلام الآيات والمعجزات، والأنبياء مأمورون باتباع الوحي دون تبديل أو تغيير، ازداد الأذى من الكفار وبلغوا الغاية في الاستهزاء. وهذا الأمر يعني أن يتمسك الأنبياء بالصبر حتى يحكم الله بينهم وبين أقوامهم، قال تعالى: (ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا وجاءتهم رسلهم بالبينات وما كانوا ليؤمنوا كذلك نجزي القوم المجرمين)(يونس: 13) وقال تعالى: (ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون) (يونس: 47).

وبيَّن الله عاقبة استعجالهم، وأنه لا ينفعهم إيمانهم إذا جاء حكم الله وحلَّ بهم العذاب، قال تعالى: (قل أرأيتم إن أتاكم عذابه بياتاً أو نهاراً ماذا يستعجل منه المجرمون أثُمَّ إذا ما وقع آمنتم به آلآن وقد كنتم به تستعجلون)(يونس: 50-51).

قصص

وبناءً على هذا جاءت قصص الأنبياء -بدءاً بنوح وانتهاءً بموسى وهارون عليهم السلام- تؤكد هذا المعنى، فقد جاءهم نوح بالبينات فكَبُر عليهم مقامه وتذكيره بآيات الله وكذبوه، فصبر وتوكل على الله حتى جاء أمر الله عزَّ وجل فنجاه ومن معه في الفلك وجعلهم خلائف، وأُغرِق الذين كذبوا بآيات الله.

ثم أجمل الله ذكر الأنبياء من بعد نوح عليه السلام فقال: (ثم بعثنا من بعده رسلاً إلى قومهم فجاؤوهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل كذلك نطبع على قلوب المعتدين) (يونس: 74). ثم جاء ذكر موسى وأخيه هارون عليهما السلام، قال تعالى:

(ثم بعثنا من بعدهم موسى وهارون إلى فرعون وملئه بآياتنا فاستكبروا وكانوا قوماً مجرمين)(يونس: 75)، ولكن لم يؤمن لموسى إلا ذرية من قومه على خوف من فرعون وملئه، فأمرهم موسى عليه السلام بالصبر والتوكل على الله حتى يأتي حكم الله، فجاء أمر الله، وأغرق الله فرعون وجنوده في اليم.

استقراء

ومن خلال هذا الاستقراء يمكننا أن نقول إن المقصد من هذه السورة هو اتباع الوحي الـمُنزل، والصبر على أذى الكفار، وانتظار حكم الله عزَّ وجل. ولو تأملنا قصة نبي الله يونس عليه السلام في القرآن علمنا أنَّه استعجل عذاب قومه، فقد خرج من قومه مغاضباً بعد أن توعَّدهم بالعذاب، ولم يصبر حتى يحكم الله عزَّ وجل، قال تعالى: (فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادى وهو مكظوم) (القلم: 48).

وقوم يونس يختلفون عن بقية الأقوام، فلم توجد قرية آمنت فنفعها إيمانها بعد أن رأت أسباب العذاب إلا قوم يونس، قال تعالى: (فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين) (يونس: 98).

ولعل هذا هو السر في تسمية السورة باسم هذا النبي الكريم، الذي يخرج من بين ظهراني قومه قبل أن يحكم الله عزَّ وجل في قومه ما يشاء. لذلك خُتمت سورة يونس بقوله تعالى مخاطباً خاتم الأنبياء والمرسلين: (واتبع ما يوحى إليك واصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين) (يونس: 109).

 

Email