أخلاق.. اصنع التسامح

ت + ت - الحجم الطبيعي

أحياناً، من يحتاج إلى التسامح يكون هو من يصنعه ويحييه في نفوس الآخرين؛ فالجميع يذكرون حكاية المناضل الجنوب أفريقي نيلسون مانديلا، الذي حرك روح التسامح في أحد سجانيه، فأظهر من التعاطف والإنسانية في تعامله مع سجينه إلى أن ودعه خارجاً من السجن.

وهنا، حكاية أخرى من السجن، تظهر كيف يمكن لمن يحتاج إلى التسامح أن يصنعه في نفوس الآخرين مهما كان موقفهم منه، ومهما كانت ثقافتهم أو ظروف عملهم..

والحكاية وقعت أحداثها كذلك في سجن، وتقول:

في أحد سجون ألمانيا، في حقبة الستينيات من القرن الماضي، كان السجناء يعانون من قسوة حراس السجن ومن معاملة سيئة في كل النواحي. ما جعل الكراهية تنتشر في أروقة السجن، وتزيد العلاقة بين السجناء والسجانين تعقيداً على تعقيد.

ولكن كانت تخرج على هذا الوضع العام حالة لا تنطبق عليها القاعدة؛ فقد كان من بين السجناء سجين يدعى «شميدث»، محكوم عليه لفترة طويلة، ومع ذلك كانت علاقته مع السجانين مختلفة، ولا تشبه بحال من الأحوال علاقات السجناء بسجانيهم؛ كما أن علاقة السجانين مختلفة، لدرجة أنهم كانوا يبيحون له الحصول على امتيازات جيدة ومعاملة فيها احترام ومراعاة.

وبطبيعة الحال، لفتت هذه العلاقة الخاصة أنظار رفاقه السجناء، الذين راحوا يتساءلون عن الأسباب التي تدعو السجانين إلى التعامل الودي مع «شميدث»، دون غيره من السجناء. وذهب بعضهم إلى القول بأنه ما كان ينال ما ينال من امتيازات ويعامل بكل ذلك الود والتفهم، إلا لأنه عميل لإدارة السجن مزروع وسطهم..

وفي يوم لم يحتمل السجناء، فقرروا استجواب زميلهم حول ذلك، وفعلوا. غير أن «شميدت» أقسم لهم أنه سجين مثلهم، وليس له علاقة بإدارة السجن ولا بالأجهزة الأمنية.

لكن لم يكن أحد من زملائه لم يصدقه، فراحوا يلحون عليه طالبين معرفة السبب الذي يجعل حراس السجن يعاملونه هو بالذات بأسلوب مختلف عن بقيتهم.

ولم يكن من مفر أن يجيبهم على أسئلتهم، فقال لهم «شميدث»: حسناً، أخبروني عن ماذا تكتبون في رسائلكم الأسبوعية لأقاربكم؟

فقالوا واحداً بعد الآخر إنهم يكتبون لأقربائهم في رسائلهم عن قسوة السجن والظلم الذي نتكبده هنا على أيدي هؤلاء الحراس، وعن مدى جورهم وظلمهم وتعجرفهم.

حينها رد عليهم «شميدث» باسماً: أمّا أنا فأكتب رسائلي لزوجتي في كل أسبوع، وفي السطور الأخيرة أذكر محاسن السجن والحراس ومعاملتهم الجيدة هنا، وحتى أنني أحياناً أذكر أسماء بعض الحراس في رسائلي وأمتدحهم كذلك، وأدعوا لهم ولعائلاتهم بالخير.

فرد عليه بعض السجناء: وما دخل هذا كله في الامتيازات التي تحصل عليها، وأنت تعلم إن معاملتهم قاسيه جداً؟

فقال: لأن جميع رسائلنا، يا أذكياء، لا تخرج من السجن إلا بعد قراءتها من قِبل الحراس، الذين يطّلعون على كل صغيرة وكبيرة فيها، فبينما يرون فيّ من خلال رسائلي إنساناً يرى فيهم إنسانيتهم ولا أتسرع في الحكم عليهم لمجرد أنهم يقومون بمهنتهم، يرون في رسائلكم ما يؤكد الصورة الشريرة التي يرسمها السجن لكم، ويتوقعها الناس من السجناء المدانين بجرائم.

- هل حقاً هذا هو السبب فقط؟

- نعم، والآن غيروا طريقة كتابة رسائلكم، لتحظوا بتعامل آخر.

لغاية هذه اللحظة، تتحدث الحكاية عن الإنسان الذي يثير في الآخرين روح التسامح. ولكن تطورات الحكاية تكشف عن الجانب الآخر. أي، كيف يميت الإنسان في الآخرين هذه الروح، فيتعرض إلى أسوأ معاملة..

والأمر في أن السجناء تفاجأوا في الأسبوع التالي بأن جميع حراس السجن غيروا معاملتهم للسجناء جميعاً إلى الأسوأ، وشمل ذلك حتى «شميدث» نفسه، الذي كان من نصيبه أقسى تعامل.

وبعد أيام سأل «شميدث» بعض السجناء: ما يحدث غريب. أخبروني ماذا كتبتم في رسائلكم الأسبوعية؟

فاعترفوا جميعاً أنهم كتبوا في رسائلهم إلى ذويهم أن «شميدث» علّمهم طريقةً جديدة تضمن لهم «خداع الحراس الملاعين، وكسب ثقتهم ورضاهم، ودفعهم إلى منحهم بعض الامتيازات».

حينها لطم «شميدث» وجهه حسرةً، وجلس يسحب شعر رأسه كالمجانين؛ إذ أدرك أن رفاقه لم يكونوا مصدقين فعلاً أن التعامل الطيب والحسن يستدعي التسامح، ولكنهم كانوا مهتمين بالإساءة إليه، وإيهام الحراس أن «شميدث» يخدعهم ويستغفلهم.

لم يطل الأمر بحراس السجن حتى أدركوا ما حصل، وأن «شميدث» كان فعلاً يتصرف وفق طباعه، رغم أن الفائدة التي كانت تعود عليه كانت تشجعه على هذا السلوك.

وأنه كان فعلاً صانع تسامح، بين زملائه المساجين صناع كراهية وبغضاء!

Email