قدوة.. أجمل المواقف

ت + ت - الحجم الطبيعي

أضحك شارلي شابلن، الملقب بـ«رجل أوروبا البائس» وسيد الشاشة الصامتة، العالم في كل الأوقات حتى في زمن الحرب والبكاء، أخفى همومه وتعاسته وفقره ويتمه في قبعته السوداء ليحولها كالساحر بلمسة عصاه إلى نجاح وعبقرية وعظمة.

ومما يعرف عنه أنه ذات مرة روى نكتة أمام الحضور فضحـك الجميع، وأعادها مرة ثانية، فضحـكَ البعـضُ فقــط، ولمّــا أعادهــا فـي المرة الثالثة لم يضحك أحد، بعدها علق بعبارة معبرة قائلاً:

- إذا لـمْ تستطـع أن تضحـك لنفس النكتــة، فلماذا تبكـي وتبكـي لنفـس الهـمّ والمُصاب..!؟

كان جزءاً من عبقرية فن شارلي شابلن أنه يحفز الإيجابية في الناس. والإيجابية هي طريق مباشرة تقود إلى التسامح بين البشر، فالإيجابية تحرر الناس من ضغوط الحياة، التي تقودهم إلى النزق وصنوفه المدمرة.

في فنه، لم يسع شارلي شابلن إلى ملاحقة الناس والتربص بهم لتصيد أخطائهم، ليجلدهم عليها أو يدينهم بها، بل مكّنهم من محبّته، وعلّمهم كيف يقدرونه، وكيف يحترموه، وحين استوطن في قلوب الجماهير وتواصل مع عقولهم ولامس مشاعرهم، كان يحفزهم باتجاهات إيجابية يرون فيها أخطاءهم، وينتبهون من خلالها إلى السلوكيات التي تنفر الآخرين منهم، ومكنهم من وضع أنفسهم في مكان الآخرين قبل الحكم عليهم.

ومن المشهور عنه، تلك الخطبة في في فيلمه الشهير «الديكتاتور العظيم»، وفيها يقول: «آسف.. لا أريد أن أكون إمبراطوراً.. فليس هذا من شأني.. لا أريد أن أحكم أو أغزو أحداً.. بل أحب أن أساعد الجميع إن أمكن.. الأسود والأبيض على السواء.. إننا جميعاً نريد مساعدة بعضنا البعض.. فهذه هي طبيعة البشر.. نريد أن نعيش عن طريق سعادة الكل لا شقاء الكل.. ولا نريد أن نكره ونحتقر.. ففي هذا العالم متسع للجميع.. والأرض الطيبة غنية وتستطيع إعاشة كل من عليها.. والحياة يمكنها أن تكون حرة وجميلة.. لكننا فقدنا الطريق.. فقد سيطر الجشع على نفوس الناس.. وملأ العالم كراهية.. وقذفنا إلى البؤس وحمامات الدم.. لقد طورنا السرعة لكن حبسنا أنفسنا داخل أنفسنا.. الآلات التي تعطي الوفرة تركتنا في عوزٍ.. معارفنا جعلتنا شكاكين.. ذكاؤنا جعلنا قساة.. نفكر كثيراً، لكن نشعر قليلاً.. نحتاج الإنسانية أكثر من الآلة.. نحتاج الطيبة والتهذيب أكثر من الذكاء والدهاء.. فبدون هذه الأشياء تصير الحياة عنيفة.. ويضيع كل شيء».

ويروي شابلن قصة من حياته، تعود إلى سنوات طفولته، كان لها أكبر الأثر في صناعته وبلورة شخصيته، والحكاية كما يرويها شارلي شابلن تقول:

«عندما كنتُ صغيراً، ذهبتُ برفقة أبي لمشاهدة عرضٍ في السّيرك، وقفنا في صفّ طويل لقطع التذاكر، وكان أمامنا عائلة مكوّنة من ستة أولاد والأم والأب، وكان الفقر بادياً عليهم، ملابسهم قديمة مهترئة لكنها نظيفة، وكان الأولاد فرحين جداً، متحمسين يطيرون من السعادة وهم يتحدّثون عن السيرك. وبعد أن جاء دورهم، تقدّم الأبُ إلى شبّاك التذاكر، وسأل عن سعر البطاقة، فلما أخبره عامل شبّاك التذاكر عن سعرها، تلعثم الأب، وأخذ يهمس لزوجته، وعلامات الإحراج بادية على وجهه! فرأيتُ أبي قد أخرج من جيبه عشرين دولاراً، ورماها على الأرض، ثم انحنى والتقطها، ووضع يده على كتف الرجل وقال له: سيدي، لقد سقطتْ نقودك من جيبك. أرجوك خذها!

نظر الرّجلُ إلى أبي، وقال له والدموع في عينيه:

- شكراً يا سيّدي! شكراً يا سيّدي!

لقد كانت عيناه مليئة بالدموع لأنه شعر بالامتنان إزاء المساعدة غير المتوقعة، التي جنبته من جهة الإحراج، وجنبته موقفاً تنفطر فيه قلوب أطفاله الصغار، وتخييب أملهم.

وبعد أن دخلوا، سحبني أبي من يدي، وتراجعنا من الطابور، لأنه لم يكن يملك غير العشرين دولاراً التي أسقطها ليأخذها الرجل!

ومنذ ذلك اليوم وأنا فخورٌ بأبي للغاية، وكان ذلك الموقف أجمل عرضٍ شاهدته في حياتي. أجمل بكثير حتى من عرض السيرك الذي لم أشاهده!

انتهت الحكاية.

فعل الخير قسمان مكملان لبعضهما البعض: المادي بالعون المالي أو الجسدي، والعون النفسي وهو بعدم إشعار طالب المساعدة بالفضل.

خلال زيارته إلى لندن، زار ملجأ للأيتام كان قد عرفه خلال طفولته الشقيّة. ثم زار برلين، وعاين المخاطر المحدقة بألمانيا بسبب صعود النازية. غير أنه ما إن غادر أوروبا إلى آسيا حتى وقف مذهولاً أمام أفواج الجائعين والمعدمين والعاطلين عن العمل وضحايا الأزمة الاقتصادية الذين يعدون بالملايين.

قال شابلن: لا بدّ للمرء أن يكون واثقاً من نفسه.. هذا هو السر.. حتى عندما كنت أعيش في ملجأ الأيتام، وحتى عندما كنت أهيم على وجهي في الشوارع والأزقة باحثاً عن لقمة خبز املأ بها معدتي الجائعة.. حتى في هذه الظروف القاسية كنت أعتبر نفسي أعظم ممثل في العالم، كنت أشعر بالحماس الشديد يملأ صدري لمجرد أنني أثق في نفسي، ولولا هذه الثقة لكنت قد ذهبت إلى النفايات مع بالوعة الفشل.

Email