مانديلا.. أيقونة التسامح

ت + ت - الحجم الطبيعي

معانٍ كثيرة وكبيرة انطوت عليها تجربة حياة الزعيم الجنوب أفريقي، نيلسون مانديلا؛ ومن أبرز هذه المعاني أن التسامح قيمة لإنسانية حقيقية وواقعية.

والأهم أنها قيمة إنسانية ضرورية للحياة والاجتماع البشري، وفي حفاظ الإنسان على إنسانيته.

بدأت حياة مانديلا في بلد كان فيه التمييز العنصري، بين البيض والسود، أمراً تحميه القوانين السائدة، وتعززه تقاليد استعمارية راسخة. وبهذا، فإن أول ما فتح عينيه عليه حينما ولد هو الظلم والتعسف والاضطهاد المقرون بإهانة كرامته الإنسانية. إضافة إلى أن التمييز العنصري كان يمثل نوعاً من التقسيم غير العادل للمجتمع، وغير الموضوعي؛ فمن جهة البيض، كانت الثقافة الرسمية تقسم قسمين.

مجتمع البيض، وترى فيهم السادة، الأذكياء. ومجتمع السود، وترى فيهم مواطنون من الدرجة الدنيا، غير مؤهلين للاختلاط بالبيض والعيش أو العمل معهم، وتصمهم بالكسل والغباء والدونية.

وهذا، لوحده وبحد ذاته، كان كفيلاً بملء قلب كل إنسان أسود البشرة بالحقد والكراهية تجاه كل البيض، وعلى حد سواء. غير أن هذا ليس كل ما واجهه مانديلا؛ فقد كان في كل لحظة، ومرحلة من حياته، يواجه مثل هذا الظلم والاضطهاد، ويعاني التمييز العنصري البغيض، في دولة كانت تحكمها أقلية بيضاء من بقايا الاستعمار الأوروبي، حرمت المواطنينَ الأفريقيينَ من حقوقهم السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة.

لذا، اختار مانديلا، الذي ولد في عام 1918، أن يواجه هذا الظلم، وأن يناضل ضده، ما عرضه لقمع السلطات؛ فأثناء دراسته في كلية القانون طردَ منها بسبب مشاركته في الاحتجاجات الطلابيّة على التمييز العنصريّ. غير أن هذا لم يجعله يستسلم، فأكمل الدراسة بالمراسلة في جوهانسبرغ. وبعد حصوله على شهادة الحقوق افتتح هو ورفيقه مكتباً للمحاماة، يعدّ الأوّل من نوعه لذوي البشرة السوداء في جنوب أفريقيا. وهو ما لم يعجب السلطات.

الأهم، أن مانديلا، في خضم نضاله ضد نظام التمييز العنصري، لم ينزلق إلى كراهية السكان البيض؛ بل على العكس، نجح بأخلاقياته العالية، وقيمه الإنسانية الرفيعة، في إقامة علاقات مع الكثيرين منهم، بل وأدى سلوكه الإنساني إلى دفع بعضهم لتأييد قضيته، ومناصرته في رفض التمييز العنصري.

ابتدأ مانديلا نشاطه السياسي مع حزب المؤتمر الوطنيّ الإفريقي عام 1942م، وبدأ معارضته لسياسة التمييز العنصريّ. وقد نشطَ الحزب في حملةٍ عُرِفت بحملة التحدّي، تنقل مانديلا خلالها في البلاد محرّضاً على مقاومة التمييز العنصريّ، فأصدرت السلطات حكماً بسجنه مع وقف التنفيذ، ومنعه من مغادرة جوهانسبرغ لستة أشهر. وقد شاركَ مع حزبه في إضراب عام 1950.

كما شارك في وضع اقتراح لإنشاء ميثاق ينصّ على المطالبة بالسلام، وتسوية النزاعات عن طريق التفاوض، سُمّي بميثاق الحريّة. وقد ادعت السلطات بأنّ هذه الوثيقة تدعو للخراب في البلاد، وعليه فقد تمّ حظر نشاطِ مانديلا ومنعه من العمل السياسيّ مدّة خمس سنوات.

وبعد سنةٍ أصدرت الحكومة تهمةً بالخيانة العظمى على مانديلا ومن معه، واستمرّت المحاكمة مدّة 5 سنوات، اتُّهمَ فيها مانديلا بانتمائه لحركةٍ دوليّة تسعى لقلبِ نظام الحكم بالقوّة. وأثناء هذه المحاكمة وقعت مذبحة شاربفيل عام 1961، وأُلقيَ القبض عليه. وقد ظهرت براءة مانديلا بعد ذلك، فتمّ الإفراج عنه، ولكن حُظرَ نشاط حزبه باعتباره مهدداً للنظام.

وبعدَ أن أعلنت الحكومة عام 1961م أنّ دولة جنوب إفريقيا جمهوريّة للبيض، دعا مانديلا جميع المنظمات الدولية إلى مقاطعة الحكومة، ولذلك كانت ردة فعلها عنيفة وعنصريّة، ممّا دفع مانديلا للاختفاء والعمل السريّ.

وفي العام نفسه أسّسَ مانديلا رمح الأمّة، الذي كان يهدف للكفاح المسلّح. ثمّ توجه في جولة للدول الأفريقيّة الأخرى وبريطانيا للحصول على الدعم، وحينما عادَ ألقت الحكومة القبض عليه عام 1962م، بتهمة التحريض ومغادرة البلاد بطريقة غير شرعيّة، وحُكمَ عليه بالسجن مدى الحياة، ونُقلَ هو والمتَّهمونَ معه إلى جزيرة روبن. وبقي سجيناً لمدة تزيد على سبعة وعشرين عاماً، إلى أن أُطلقَ سراحه في عام 1990 نيلسون مانديلا دونَ أية شروط.

قاد مانديلا بعد إطلاق سراحه مفاوضات مع أركان نظام الحكم العنصري في بلاده، توجت بإنهاء نظام التمييز العنصريّ، وأصدر دستوراً جديداً تعدديّاً خالياً من العنصريّة. وفي عام 1994 تمّ انتخابه رئيساً للبلاد، ليكون أوّل رئيس أسود لجنوب إفريقيا. وقاد عملية مصالحة وطنية وتحولاً ديمقراطياً، رافضاً كل أشكال الانتقام وإعادة فتح ملفات الماضي البغيض.

توفّي مانديلا في الخامس من ديسمبر عام 2013 في جوهانسبرغ، عن عمر بناهز 95 عاماً. وقد تأثّر العالم بأسره بوفاته، باعتباره شخصية متفردة مثلت رمزاً لقيم الشجاعة والعدالة والتسامح.

شخصية مانديلا تؤكد أن التسامح ليس مجرد حكاية، ولكنه قيمة إنسانية واقعية.

Email