المهلب وأبناؤه في رحلات الجهاد الطويلة

فتح بلاد السند وغزوة سمرقند وهزيمة الأزارقة

ت + ت - الحجم الطبيعي

تقديما لهذه الصفحة التي نحاول فيها الإرتحال مع ملامح من سير بعض الشخصيات التي برزت في التاريخ الإسلامي من أبناء الإمارات أو على أرضها جدير بنا أن نتوقف مع بعض الفقرات الهامة من بحث للمؤرخ الأستاذ الدكتور أحمد شلبي يؤكد فيه أن الحضارة الإسلامية هي من " العلوم التي عنى بها صدر الإسلام ثم اختفى في عصر الظلام بالضبط .

كما احتوى الظلام تاريخ هذه المنطقة فترة من الزمن حتى أصبح الكثيرون لايعرفون عنها إلا القليل أو لا يعرفون عنها شيئا ولكن الجوهر الحر يستجيب لصاقله ، وسرعان ما يعود للبريق واللمعان ، وما أحوج المسلمين بل ما أحوج الجنس البشري بأسره إلى التعرف على هذه الحضارة التي لعبت بالأمس دورا عظيما لخدمة البشرية ، ولايزال عليها دور كبير لتقوم به في حاضر البشرية ومستقبلها .

ثم يؤكد الدكتور الشلبي بأن الحضارة تتخذ أسسها من القرآن الكريم وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولكن المفكرين المسلمين التقطوا هذه الأسس وشيدوا عليها صرح دراسة واسعة عن هذه المادة وكان لعلماء هذه المنطقة ومفكريها في العصور الأولى دور مهم اسهموا به في بناء صرح هذه الحضارة الإسلامية .

وقد تنوع الدور الذي قام به أولئك الأوائل" وبصدد الشخصيات والأعلام التاريخية من أبناء عمان والإمارات في التاريخ الإسلامي فإن الباحث العماني سليمان بن خلف الخروصي يرصد في بحث له ضمن حصاد ندوة الدراسات العمانية نخبة من الخطباء والبلغاء في الجاهلية والإسلام وعددا من الصحابة وكلهم مذكورون في الإصابة للحافظ بن حجر وابن عبد البر في الإستيعاب ، ثم يأتي على ذكر( أبوصفرة وابنه المهلب) واصفا إياه بالبطل الخالد والقائد العظيم في العصر الأموي .

موضحا بأن بنو المهلب كلهم ابطال قادة سجل لهم التاريخ العربي أروع الصفحات ومنهم بشر بن المغيرة بن أبي صفرة ولم يكن في الجزيرة العربية أنطق منه وافصح ويذكر أسماء أخرى ومنهم (كعب بن سور) قاضي الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه في البصرة ، ومنهم مرة بن البليد ولم يكن أجود منه ارتجالا وكان رسول المهلب ابن أبي صفرة إلى الحجاج .

ومن بين القيادات البارزة التي يحصر أسماؤها البحث القائد العظيم والفاتح البطل موسى بن نصير الذي فتح بلاد المغرب كلها والأندلس " ، وفي مجال الأدب وفنون الكتابة يزدهي العالم واسع الصيت أبو العباس المبرد له مؤلفات منها كتاب (الكامل) في الادب وهو من أشهر كتب الأدب المعتمدة لدى الادباء حيث يقول العلامة ابن خلدون ( سمعنا من شيوخنا في مجالس التعليم أن أصول الأدب وأركانه أربعة دواوين وذكر كتاب الكامل أولها و" المبرد" من أهل ( مقاعس) في الباطنة أيضا.

وهناك علم العروض وهو برمته من وضع العالم العماني الخليل بن أحمد الفراهيدي وكان من اهل (ودام) بالباطنة خرج الى البصرة واقام بها فنسب اليها ، وهو الذي لم يعرف من البحور بعده إلا المتدارك ، ومنهم (ابن دريد) أبو بكر بن محمد بن ابي الحسن وهو صاحب كتاب " الجمهرة والاشتقاق"و "المقصورة الشعرية" الشهير عند اهل اللغة والادب وله أيضا مصنفات كثيرة أخرى وكان مولده سنة 233 للهجرة في خلافة المعتصم في البصرة واختلف في نشأته وهو من بلدة (قدفع) في إمارة الفجيرة وقد سكن( صحار) وكذلك ( دما) وهي (السيب) حاليا.

ولنا مع (ابن دريد) وقفة خاصة في هذه الصفحات من دفاتر التاريخ الاسلامي للوطن وهكذا ان شاء الله مع آثار الموقع الإسلامي ومكتشفاته في قدفع بالفجيرة ، و كان لهم فيه قصب السبق في الجانب المعماري ، فموقع عمان والإمارت الإستراتيجي استلزم بناء كثير من الحصون والقلاع لتحمي بلادهم من الطامعين والمعتدين ، ولاتزال هذه الحصون شامخة تدل على براعة الذي اقترح والذي رسم والذين نفذوا ..

 

ومع تاريخ (المهلب القائد وآل المهلب) كنا وسنبقى مع نماذج إنسانية إسلامية عربية قيادية عسكرية فذة من أبناء هذه الأرض والذين صمدوا يجاهدون دفاعاً عن الإسلام دون تهاون ولا يأس وكانوا مقاتلين فاتحين يحرسون الحدود الشرقية ويوسعون آفاقها أمام الإسلام في رحلة الجهاد الطويلة و تربطنا سيرتهم وأخبارهم في رحلة اليوم بالتسلسل التاريخي من أخبار الحضور التاريخي لهذه المنطقة وأبنائها في مسيرة الفتوحات الإسلامية التي استأنفت في العهد الأموي .

وكنا قد تركنا ( المهلب ) في عام 61هـ حين عبر مسلم بن زياد والي خراسان وسجستان الجديد في عهد يزيد بن معاوية نهر جيجون (بلخ) ومعه أحد قادة الجند وهو (المهلب بن أبي صفرة) من أزدعمان ، وصولا إلى فتح بلاد السند وغزوة سمرقند . وثمة إخبارية تاريخية أيضاً من عام 43هـ جديرة بالإشارة .

وذلك عندما غزا الحكم بن عمر عامل معاوية على خراسان بعض جبال الترك فغنموا وأخذ عليهم الترك الشعاب والطرق فأعيا الحكم بن عمر الأمر فولى (المهلب) الحرب فلم يزل يحتال حتى أسر عظيماً من عظماء الترك فقال له إما أن تخرجنا من هذا الضيق أو لأقتلنك. فقال له أوقد النار حيال طريق من هذه الطرق وسير الأثقال نحوه فإنهم سيجتمعون فيه ويخلون ما سواه من الطرق فبادرهم إلى طريق أخرى فما يدركونكم حتى تخرجوا منه ، ففعل ذلك وسلم الناس بما معهم من الغنائم.

مالهذا غير المهلب

إن سياق الحديث عن العصر الأموي وفق التسلسل التاريخي لفترات هذه الصفحات الرمضانية عن التاريخ الاسلامي منذ 8هـ وسياق بروز (آل المهلب) في أحداث الزمان والمكان ، تؤكد لنا خبرات (المهلب بن ابي صفرة) العسكرية في حرب الأزارقة في ولاية الحجاج إذ يفيدنا الكاتب الإسلامي محمد محمود في كتاب له بعنوان (المائة الاوائل من الرجال) فيقول انه في سنة 65هـ كان الخوارج الأزارقة قد اشتد ساعدهم بقيادة نافع بن الأزق وبدأوا يخوضون سلسلة من الحروب حتى تمكنوا من الإقتراب إلى البصرة وحين أحس أهل البصرى بالخطر يتهددهم هرعوا إلى الأحنف بن قيس يستنجدون به.

لكن الأحنف كان يعرف من يستطيع التصدي للأزارقة ومن هو خبير في حربهم فقال لهم (ما لهذا غير المهلب) وكان المهلب موالياً لعبدالله بن الزبير الذي ولاه على خراسان، وتقول الأخبار ان المهلب انتدب جيشاً من أهل البصرة من اثني عشر ألف مقاتل وبدأ يتصدى للأزارقة فاصطدم معهم وهزمهم فانسحبوا إلى نهر يتري فلحق بهم فتراجعوا إلى الأهواز فأرسل إليهم جيشاً على رأسه ابنه (المغيرة بن المهلب) فاشتبك معهم في منطقة (سولاف).

،لكن أعمال المهلب ضد الخوارج توقفت حين استدعاه مصعب بن الزبير ليكون إلى جانبه وهو يعد العدة للإنقضاض على المختار الثقفي، وفعلاً جاء المهلب إلى البصرة بحشد عظيم وانتظم في صفوف مصعب وخاض معه القتال ضد المختار حتى تم القضاء عليه وكان للمهلب دور في ذلك كبير سنة 72هـ ودخل العراق في ظل الخلافة الأموية وسارع (المهلب) بما عرف عنه من تمسك بالطاعة والجماعة فأخذ البيعة لمروان بن عبدالملك ودخل في طاعته ، وعندما عزل والي البصرة الجديد خالد بن عبدالله (المهلب) عن إدارة الحروب وولاه الأهواز.

ووصلت الأنباء إلى عبدالملك في دمشق أرسل يعاقب خالداً ويقول له : قبح الله رأيك.. تبعث أخاك أعرابياً من أهل مكة على القتال وتدع المهلب يجبي الخراج، وهو الميمون النقيبة المقاسي للحروب "ابنها وابن ابنائها"، أرسل إلى المهلب يستقبلهم، وقد بعثت إلى بشر بالكوفة ليمدك بجيش فسر معهم، ولاتعمل في عدوك برأي حتى يحضره المهلب .

وهكذا مضى المهلب من جديد إلى حرب الأزارقة بهذه الثقة التي بناها المهلب بالجهد والمثابرة والاستقامة والعزم ، وبخبرته العسكرية في حرب الازارقة يرد المهلب على أمر الحجاج حين كتب له يأمره بأن يقاتلهم على اختلافهم عندما انقسم الأزارقة بين عبدربه الكبير، وقطري بن الفجاءة  فيقول: "لست أرى أن أقتالهم مادام يقتل بعضهم بعضا، فإن تموا على ذلك فهو الذي نريد وفيه هلاكهم، وإن اجتمعوا لم يجتمعوا إلا وقد رقق بعضهم بعضا فأناهضهم حينئذ وهم أهون ماكانوا وأضعف شوكة ان شاء الله تعالى " ، وفعلاً ترك المهلب الأزارقة يقتتلون حتى استنزف صدامهم الداخلي قدرتهم على التصدي فانقض عليهم بكل ثقة وعزم وهدوء أعصاب حتى قضى عليهم نهائياً.

وهنا نقرأ في كتاب تاريخ المهلب القائد وآل المهلب "أنه لما انتخب المهلب من شجعان القبائل وأهل البأس والنجدة لمواجهة الخوارج وكان أكثر من انتخب من قبائل الأزد الذين قال لهم: "يا معشر الأزد والله ما اخترتكم بغضاً مني لكم ولكن حملني إلى انتدابكم ما سمعته من أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وهو يقول للأزد "أربع ليست في قبائل العرب بذل لما في أيديهم ومنع لجوارهم وشجعان لا يجبنون وحي عماد لا يحتاجون إلى غيرهم، بهم نصر الله هذا الدين وأفنى صناديد المشركين ". فلما سمعت الأزد ذلك منه مع ما كان ينالهم من معروفه قالوا يا أبا سعيد تقدم بنا حيث شئت فوالله ما انهزم أحد منا عنك ولا مات إلا أمامك " ، وفي ذلك استحق المهلب قول الشاعر الأزدي:

"إن العراق وأهله لم يخبروا

مثل المهلب في الحروب فسلموا"

لقد كان (المهلب) حسبما يتفق المؤرخون لا يقدم على معركة إلا إذا كان متأكداً من توفر جميع شروط النصر فيها ، ولهذا لم يكن يخوض معركة إلا كان النصر فيها حليفه ، وفي موقفه من أمر الحجاج وحرب الأزارقة تأكيد على إيمانه الراسخ بأن الانتصار بالاجتماع والهزيمة بالتفرقة وذلك عندما كتب إلى الحجاج رافضاً أمره بمهاجمة الأزارقة وهم يقتتلون فيما بينهم .

وبالفعل عندما تمكن المهلب من القضاء عليهم بعدما استنزف صراعهم الداخلي قدرتهم على التصدي قدم على الحجاج وهو في البصرة فأجلسه معه على السرير ودعا أصحاب البلاء من أصحاب المهلب فأحسن إليهم وزادهم .

لكن سيف المهلب الذي جرد للقضاء على الفتن لم يعد إلى غمده. إذ سرعان مانشبت الإضطرابات في خراسان فسارع الخليفة الأموي يستنجد بالمهلب، فقد تم تعيينه والياً على خراسان، فاندفع بجيشه من جديد ليعبر نهر بلخ في سنة 80هـ ويحارب ملك الختل وملك بخاري وأخمد الفتن وأشاع الأمن والاستقرار وضرب بشدة وبطش على أيدي المفسدين والمخربين.

 

العمليات العسكرية في ماوراء النهر

لقد توقفت العمليات العسكرية الواسعة في هذه المنطقة طيلة أحداث الفتنة الثانية من 61 ــ72هـ إلى أن استقامت الأمور لعبدالملك بن مروان فاستأنف عمليات الفتح عام 77هـ فعبر أمية بن عبدالله بن خالد عامل خراسان نهر (بلخ) ولم يوفق في غزوه فقفل عائداً على مرو.

واختلف أمر الفتوحات في هذه الجبهة عشية تولي (المهلب بن أبي صفرة) قيادة الفتح في خراسان ليصبح طابع العمليات العسكرية مصبوغاً بالطابع الجهادي، فحين أصبح الحجاج بن يوسف الثقفي والياً على العراق وخراسان كلف (المهلب) بقيادة العمليات العسكرية في منطقة ما وراء النهر عام 80هـ. فاستهل المهلب أعماله بقطع نهر (بلخ) واحتل "كشي" وصالح أهلها على فدية يأخذها منهم ، كما أرسل ابنه (حبيباً) إلى بخارى على رأس جيش قوامه 40 ألفاً .

وأثناء ذلك كان قد استخلف ابنه (المغيرة) على خراسان ، ويبدو أن (المهلب) رجع من خراسان إلى العراق إذ يخبرنا الشيخ البطاشي بأنه لما كان وقت استيلاء عبدالملك بن مروان على الشام ومصر وعبدالله بن الزبير على الحجاز والعراق واليمن وفد (المهلب) علي ابن الزبير بمكة وقال ابن خلكان: " روي أن المهلب قدم على عبدالله بن الزبير أيام خلافته بالحجاز والعراق وتلك النواحي وهو يومئذ بمكة فخلى به عبدالله يشاوره فدخل عبدالله بن صفوان بن أمية بن خلف القريشي الجمحي فقال:

من هذا الذي شغلك يا أمير المؤمنين يومك هذا، قال: أو ما تعرفه قال: لا. قال: هذا سيد أهل العراق. قال: فهو المهلب بن أبي صفرة. قال: نعم. فقال المهلب: من هذا يا أمير المؤمنين. قال: هذا سيد قريش. قال: فهو عبدالله بن صفوان. قال نعم".

لقد تمكن (المهلب بن أبي صفرة) خلال ولايته في العهد الأموي على خراسان من أن يخمد الفتن ويشيع الأمن والاستقرار وضرب بشدة وبطش على أيدي المفسدين والمخربين ، وعندما كان (المهلب) منشغلاً بقتال ما وراء النهر كان قد استخلف ابنه (المغيرة) على خراسان، فمات المغيرة سنة 82هـ فدعا (يزيد) ووجهه إلى (مرو) ووصاه بما يعمل وإن دموعه تنحدر على لحيته فسار يزيد في ستين فارساً أو سبعين، وكان المغيرة أبرع أولاد المهلب وأوفاهم وأعفهم وأسخاهم فلما مات رثاه زياد الأعجم بقصيدته التي يقول فيها:

مات المغيرة بعد طول تمرض

للموت بين أسنة وصفائح

إن السماحة والمروة ضمنا

فيزعر على الطريق الواضح

وفي نفس العام كانت رحلة الجهاد الطويلة (للمهلب بن أبي صفرة) تقترب من نهايتها فقد أصيب بمرض أدى لوفاته وقيل إن وفاته سنة اثنتين وثمانين للهجرة.

وقد أحدثت وفاته صدى حزيناً في كل أرجاء الدولة الإسلامية وبادر الحجاج لإكرام ذكراه، فعين ابنه يزيد بن المهلب والياً على خراسان.

Email