احتراق البستان رفض رباني للجشع

  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

يروى فى الأثر أن شيخاً - كبيراً فى السن- كانت له جنة- حديقة- وكان لا يدخل بيته ثمرة منها ولا إلى منزله حتى يُعطي كل ذي حق حقه، فلما مات الشيخ ورثه بنوه- وكان له خمسة من البنين - فحملت جنتهم في تلك السنة التي هلك فيها أبوهم، حملاً لم تكن حملته من قبل ذلك، فراح الفتية إلى جنتهم بعد صلاة العصر، فأشرفوا على ثمر ورزق فاضل.

تعاهد وتعاقد

لم يعاينوا مثله في حياة أبيهم، فلما نظروا إلى الفضل طغوا وبغوا، وقال بعضهم لبعض، إن أبانا كان شيخاً كبيراً قد ذهب عقله وخرف، فهلموا نتعاهد ونتعاقد فيما بيننا، أن لا نعطي أحداً من فقراء المسلمين في عامنا هذا شيئاً، حتى نصبح أغنياء وتكثر أموالنا، ثم نستأنف الصنعة- عدم إعطاء الفقراء - فيما يستقبل من السنين المقبلة.

رضي بذلك منهم أربعة، وسخط الخامس وقال لهم اتقوا الله وكونوا على منهاج أبيكم تسلموا وتغنموا، فبطشوا به وضربوه ضرباً مبرحاً، فلما أيقن أنهم يريدون قتله دخل معهم في مشورتهم كارهاً لأمرهم، غير طائع، فراحوا إلى منازلهم ثم حلفوا بالله أن يصرموه إذا أصبحوا، ولم يقولوا إن شاء الله، فابتلاهم الله بذلك الذنب، وحال بينهم وبين ذلك الرزق الذي كانوا أشرفوا عليه.

فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون فأصبحت كالصريم، فإن الله الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، ما كان ليغفل عن تدبير خلقه، وإجراء سننه في الحياة، فقد أراد أن يجعل آية تهديهم إلى الإيمان به والتسليم لأوامره بالإنفاق على المساكين وإعطاء كل ذي حق حقه، وأن يعلم الإنسان بأن الجزاء حقيقة واقعية، وإنه نتيجة عمله.

مكر الإنسان

وهكذا يواجه مكر الله مكر الإنسان، فيدعه هباء منثورا، «وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ»(5) وإذا استطاعوا أن يخفوا مكرهم عن المساكين، فهل استطاعوا أن يخفوه عن عالم الغيب والشهادة؟ كلا، وقد أرسل الله تعالى طائفة ليثبت لهم هذه الحقيقة قال تعالى :«فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ * أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ * فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ * أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ * وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ * فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ» (6).

في تلك اللحظة الحرجة اهتدوا إلى ان الحرمان الحقيقي ليس قلة المال والجاه، وإنما الحرمان والمسكنة قلة الإيمان والمعرفة بالله، وهكذا أصبح هذا الحادث المريع بمثابة صدمة قوية أيقظتهم من نومة الضلال والحرمان، وصار بداية لرحلة العروج في آفاق التوبة والإنابة، والتي أولها اكتشاف الإنسان خطئه في الحياة، ومن هنا نهتدي إلى أن من أهم الحكم التي وراء أخذ الله الناس بالبأساء والضراء وألوان من العذاب في الدنيا، هو تصحيح مسيرة الإنسان بإحياء ضميره واستثارة عقله من خلال ذلك، كما قال ربنا عزوجل: «فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ » فدهشوا، وصعقوا، وقالوا ليست هذه بساتينناً،ثم تأكدوا أنها بساتينهم،وإنّما حرموا خيرها لأنهم حرموا الفقراء حقوقهم التي كتبها الله لهم.

تستحق التأمل

فما أحوجنا أن نتأمل قصة هؤلاء الأخوة الذين اعتبروا بآيات الله، وراجعوا أنفسهم بحثاً عن الحقيقة لما رأوا جنتهم وقد أصبحت كالصريم، فلنغير من أنفسنا ليغير الله ما نحن فيه، لهذا الدور تصدى أوسط أصحاب الجنة، فعارضهم في البداية حينما أزمعوا وأجمعوا على الخطيئة، وذكرهم لما أصابهم عذاب الله بالحق، وحملهم كامل المسؤولية، واستفاد من الصدمة التي أصابتهم في إرشادهم إلى العلاج الناجع، قال أوسطهم ألم أقل لكم لولا تسبحون؟ من هذا الموقف نهتدي إلى بصيرة هامة ينبغي للمسلمين أن يدركوها،وهي: إن المجتمعات حينما تضل عن الحق والمناهج المنحرفة،تصير إلى الحرمان،وتحدث في داخلها هزة عنيفة ذات وجهين، أحدهما القناعة بخطأ المسيرة السابقة، والآخر البحث عن المنهج الصالح.

أجمل تعقيب

ثم أجمل تعقيب على هذه القصة، قوله تعالى:﴿كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾. كل أنواع العذاب التي يسوقها الله لعباده، من هذا النوع، ليدفعهم إلى العبودية الصادقة، ليدفعهم إلى بابه، ليسعدهم، لذلك قال بعض علماء التوحيد: لا ينبغي أن تقول« الله الضار» وإنما ينبغي أن تقول « الله الضار النافع» وينبغي أن تقول «الخافض الرافع» لأنه يخفض ليرفع« وينبغي أن تقول »الله المذل المعز« لأنه يذل ليعز، وينبغي أن تقول »الله المانع المعطي« لأنه يمنع ليعطي ، يقول الله جل جلاله: ﴿ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ »(10).

Email