»الميزان« نعمة في الدنيا وحجّة في الآخرة

ت + ت - الحجم الطبيعي

 

لا تكاد أمة تصل إلى ذرا المجد إلا والعدل أساس بنائها، وما أهمل قوم العدل وساد بينهم الظلم إلا باؤوا بالذل والانكسار والضعف والهوان، وكيف عساهم أن يسودوا وينالوا احترام الآخرين وهم لا ينصفون بعضهم، وأنى لهم أن تقوم لهم قائمة ولا يؤخذ حق ضعيفهم من قويهم؟

العدل والميزان صنوان لا يفترقان، والذي يسير في ربوع القرآن يجد أن الوزن والميزان كان لهما حظ وافر من آيات الكتاب العزيز، إذ ورد ذكر «الميزان» مفرداً في تسعة مواضع.

وكفى بنصب الميزان يوم يقوم الناس لرب العالمين دليلاً على علو شأنه ورفعة منزلته، (ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئاً وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين) الأنبياء: 47، وحينئذ (فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ومن خفّت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم) الأعراف: 8

إنه حساب الحق الدقيق العادل (فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره) الزلزلة: 7-8، فالذين رجحت كفة أعمالهم الطيبة فازوا بالنعيم المقيم، ومن رجحت سيئات أعمالهم وباعوا أنفسهم للشيطان صاروا من أصحاب الجحيم.

والرحمن سبحانه وتعالى خلق الإنسان وامتن عليه بأن سوّى له الأرض ورفع له السماء وبناها، وسخر له كل شيء لخدمته، (والسماء رفعها ووضع الميزان أن لا تطغوا في الميزان وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان) الرحمن: 7-9 ، فهذا الكون بأجرامه وعوالمه التي لم يدرك منها الإنسان إلا أقل مما تحمله الإبرة إذا غمست في البحر، مخلوق بميزان لا يتخلف ولا يطغى، ولسنا بصدد البحث في الإعجاز العلمي للقرآن فإن له أهله، ولكن تأمل فقط في قوله تعالى (فارجع البصر هل ترى من فطور ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئاً وهو حسير) الملك: 4، صنعة عجيبة مرتبة بنظام عجيب، فالشمس والقمر والنجوم والأجرام السماوية جمعاء تسير بانتظام لا يتخلف، ومن عظمة كل كلمة في القرآن أن نجده قرن خلق السماء بوضع الميزان، ليعلم أن السماء بما تحتويه رفعها الله بميزان ينبغي التفكر فيه.

الميزان هو آلة الوزن، وكما أن للمحسوسات ميزاناً كذلك للقيم والمعنويات ميزان، فالإسلام وازن بين الأمور، فنرى أن هناك قوماً رجحوا كفة المادة على الروح، وهناك من طغى بالروح على المادة، وأما ديننا الحنيف فإنه وازن بين الروح والمادة، فأمر بعبادات ترتقي بالإنسان في روحه إلى ملكوت العلو الإلهي، وفي الوقت ذاته أمره بالعمل والأخذ بالأسباب والتزود من العلوم الكونية حتى قال عليه الصلاة والسلام: «إذا قامت القيامة على أحدكم وفي يده فسيلة فليغرسها» مسند أحمد 3/183.

قد يستغرب القارئ لأول وهلة أن الميزان الذي ينصبه الله تعالى يوم الحساب أكثر ما يرجح فيه من الأعمال ليس الصلاة والصيام والحج، ما أعظمه من إله يرجّح كفة ميزان العبد بحسن خلقه مع عباد الله جميعاً بغض النظر عن دينهم ومعتقداتهم، فيقول عليه الصلاة والسلام: «ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن» رواه الترمذي (2002). بل إن حسن الخلق يستمر مع المؤمن حتى بعد انتهاء الوزن فيعطيه شرف رفقة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومحبته في الجنة فيقول عليه الصلاة والسلام: «إن من أحبّكم إليّ وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً» الترمذي (2018).

ومن هنا نرى أن نبياً من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بعثه الله إلى قوم كانوا يتعاملون بالغش والخداع وينقصون المكيال والميزان، وهو شعيب عليه السلام (وإلى مدين أخاهم شعيباً قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ولا تنقصوا المكيال والميزان إني أراكم بخير وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط) هود: 84

والفرق بين المكيال والميزان أن هناك أشياء يحسب مقدارها بالكيل كالقماش مثلاً فإنه يحسب بالأمتار، ومنها ما يحسب بالوزن.

إن الله أراد للميزان أن يقوم بين الناس في معاملاتهم، إذ لو أخذ أحد غير حقه لاستمرأ الناس اغتصاب حقوق بعضهم ولسادت الفوضى في المجتمع ورجحت كفة الباطل على الحق والظلم على العدل، وهذا ما ينذر بهلاك المجتمع وتآكل بنيانه، وانظر إلى الانهيار الذي حدث في اقتصادات عالمية كانت متربعة على عرش الازدهار دهوراً، وانتهت فجأة بأزمة مالية فجّرها التعامل بغير ميزان الحق الذي ارتضاه الله لعباده.

Email