في الليلة الظلماء يفتقد البدر

ت + ت - الحجم الطبيعي

الثقافة بمعناها الواسع، تشمل كل تجليات التعبير المشترك كالحِكَم والأمثال الشعبية وكل الموروثات. إنها وليدة تفاعل الناس ومتطلبات حياتهم، ليتم تناقل المنجز جيلاً بعد جيل ضمن منظومة الهوية. هنا نتلمس عروق الذهب الذي بلورته التجارب حتى انتهى إلينا عبر اللغة بما يلخص قصة عناق طويل مع الحياة.

كثيراً ما نردد هذه العبارة: وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر، التي تفيد قيمة الشيء أو الشخص الغائب في ساعة الحاجة الماسة إليه، حيث كان الغائب يسد تلك الثغرة بكفاءة واقتدار.

هذه المقولة هي عجز بيت شعري قاله أبو فراس الحمداني وهو في الأسر بيد الروم، «سيذكرني قومي إذا جدّ جدهمُ، وفي الليلة الظلماء يفتقد البدرُ»، حيث إنه ابن عم سيف الدولة الحمداني أمير حلب، وبسبب الحروب التي كانت سجالاً بين الحمدانيين والروم أُسر الفارس المغوار والشاعر النحرير أبوفراس، وفي السجن قال قصيدته الشهيرة التي فيها:

أراكَ عـصـيَّ الـدَّمْـعِ شــــــــــــــيـمَـتُـكَ الـصَّـبْـرُ

أمــا لِلْـهَـوى نَـهْـيٌ علـيـكَ و لا أمْــرُ ؟

بَـلــى، أنـــا مُـشْـــــــــــــــــــــــــــــتـاقٌ وعـنــــــــــــــــديَ لَـوْعَـــــــــــــــةٌ

ولـكــــــنَّ مِـثْـلــــــــــــــــي لا يُــــــــــــــــــــــــــــذاعُ لــــهُ ســــــــــــــِــــرُّ!

إذا اللّيـلُ أَضْوانـي بَسَـطْـتُ يَــدَ الـهـوى

وأذْلَـلْــتُ دمْـعــاً مـــن خَـلائـقِــهِ الـكِـبْــرُ

تَـكـادُ تُـضِــــــــــــــــــــــــــــــيْءُ الـنــــــــــــــــارُ بـيــن جَـوانِـحـــــــــــــــي

إذا هــــي أذْكَـتْـهــــــــــــا الـصَّـبـابَـةُ والـفِـكْــرُ

مُعَلِّـلَـتـي بـالـوَصْـلِ، والـمَــــــــــــــــوتُ دونَــــــــــــــــــهُ

إذا مِــــــــــتُّ ظَمْـــــــــآنـاً فـــلا نَــــــــزَلَ الـقَـطْـرُ!

ترعرع أبو فراس في كنف ابن عمه سيف الدولة في حلب، بعد موت والده باكراً، فشب فارساً وراح يدافع عن إمارة أهله ضد جحافل الروم ويحارب الدمستق قائدهم. وفي أوقات السلم كان يشارك في مجالس الأدب فيذاكر الشعراء وينافسهم، ثم ولاه سيف الدولة مقاطعة منبج فأحسن حكمها والذود عنها.

وكانت المواجهات والحروب كثيرة بين الحمدانيين والروم، وفي إحدى المعارك خانه الحظ يوماً فوقع أسيراً سنة 347 هـ، 959م في مكانٍ يُعرف باسم «مغارة الكحل». فحمله الروم إلى منطقة تسمى خَرْشَنة على الفرات، وكان فيها للروم حصنٌ منيع، ولم يمكث في الأسر طويلاً، واختُلف في كيفية نجاته، فمنهم من قال إن سيف الدولة افتداه ومنهم من قال إنه استطاع الهرب، فابن خلكان يروي أن الشاعر ركب جواده وأهوى به من أعلى الحصن إلى الفرات، والأرجح أنه أمضى في الأسر ثلاث سنوات.

وفي الأسر كتب قصائد عصماء كثيرة تعد من أجمل الشعر وقد سميت بالروميات ومن بينها هذه القصيدة التي قال فيها أيضاً:

أسِرْتُ وما صَحْبي بعُزْلٍ لَدى الوَغى،

ولا فَـرَســـــــــــــــــــــــــــــي مُـهْـــــــــــــرٌ، ولا رَبُّـــهُ غُـمْــرُ

ولـكـنْ إذا حُــمَّ القَـضـاءُ عـلــى امـــرئٍ

فـلـيْـــــــــــــــسَ لَــــهُ بَــــرٌّ يَـقـيــــــــــــــــــــــــــهِ، ولا بَــحْــــــــــــــــرُ

وقـال أُصَيْحابـي: الفِـرارُ أو الـرَّدى؟

فقـلـــــتُ: هـمـا أمــرانِ، أحْلاهُـمـا مُــرُّ

سَيَـذْكُـرُنـي قـومــي إذا جَــــدَّ جِــدُّهُــمْ،

وفـــي اللّـيـلـةِ الظَّـلْـمـاءِ يُـفْـتَـقَـدُ الــبَــدْرُ

فذهب عجز البيت الأخير أعلاه مثلاً بين العرب.

Email