عتيج الصوف ولا يديد البرسيم

ت + ت - الحجم الطبيعي

 الثقافة بمعناها الواسع، تشمل كل تجليات التعبير المشترك كالحِكَم والأمثال الشعبية وكل الموروثات. إنها وليدة تفاعل الناس ومتطلبات حياتهم، ليتم تناقل المنجز جيلاً بعد جيل ضمن منظومة الهوية. هنا نتلمس عروق الذهب الذي بلورته التجارب حتى انتهى إلينا عبر اللغة بما يلخص قصة عناق طويل مع الحياة.

في حلقة ماضية قلنا إن المقولات الذهبية الإماراتية المتوارثة، تميل غالباً إلى الحكمة المطلقة، أكثر مما تميل إلى المثل الذي له قصة محددة في الأصل. ومن تلك الحكم التي اعتصرت تجارب الإنسان مع الحياة في هذه البيئة الخليجية، عبر الزمان، قولهم: جديم أو عتيج الصوف ولا يديد البرسيم.

أولاً البرسيم المقصود هنا ليس كما يتبادر إلى الذهن من أنه ذلك النبات الذي تعلفه السوائم، وإنما هو من أجود وأغلى أنواع الحرير.

وثانياً فإن هذا القول الذهبي ليس كما قد يبدو للمتعجل، يعلي فقط من شأن القديم، ويقدسه على حساب الجديد والتجديد والتطوير، كلا، فهو يعني فيما يعني، أن الأسبق في السن (العتيج) أسبق وأفضل وهو خير ممن جاء بعده إذا كان أقل خبرة ونفعاً ومواءمة مع محيطه ومجتمعه، لماذا؟ لأن القديم قد امتحنته التجارب الصعبة وثبت نفعه وجدواه على مر السنين وتقلب الأحوال، فصمد وركز، بينما الجديد، مهما كان لماعاً وجذاباً وناعماً كالحرير الأصلي، إلا أنه قد لا ينفع صاحبه، وقد لا يناسب ظروفه، فما جدوى الحرير مثلاً لمن يعاني من البرد القارس، وما قيمته للعاري الفقير البائس، هل يليق به لبس الحرير، أم يناسبه ويشبهه الصوف القوي الذي يدوم فلا يتأثر بتقلب الأحوال، الصوف مجرب ويوفر الحشمة، والحرير جميل وبراق ولكنه لم يثبت نفعه إلا إذا أثبت ذلك بعد وقت وحينئذ سيكون (عتيقاً) مجدياً.

ثمة أقوال إماراتية أخرى موازية ومعززة لهذه المعاني ذاتها، حيث تؤكد ضرورة عدم التفريط في القديم وتجاوزه اغتراراً وافتتاناً بالجديد، لمجرد أنه براق وآسر للبصر، أو حتى لكي نبدو معاصرين ومواكبين لغيرنا تبعاً للموضات الزائفة. فمثلاً هنالك قول مفاده «احفظ جديمك.. يديدك ما يدوم».

وحكمة أخرى تقول "اللي ماله أول ماله تالي" كلها أقوال تقع في إطار ذهب الكلام الذي لا تغيره السنوات، ولا تقلل من قيمته.

جانب آخر ينبهنا إليه قول "عتيج الصوف ولا يديد البرسيم" وهو أن قيمة الأمور ليست بصورتها ومظهرها وإنما بجدواها ومواءمتها، وكلما كان الشيء ذا وظيفة ودور يؤديه، كان أولى أن نفضله على ما لا دور عضوياً فاعلاً يقوم به لمصلحة المجتمع أو لخدمة المحيط الذي يوضع فيه.

كل ما سبق يفضي بنا إلى ضرورة الموازنة بين الأصالة والمعاصرة، اعتمادا على معيار الجدوى والمواءمة، فما ثبتت جدواه ونفعه أحق بالاهتمام والانحياز من سواه وإن كان غالي الثمن خاطفاً للبصر.

Email