عيسى.. كلمة الله ألقاها إلى مريم 2 ـ 2

ت + ت - الحجم الطبيعي

القصة نسيج لحدث يحكي عبرة، ويوصل فكرة وقد حث القرآن عليه قال تعالى (فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)(الأعراف: 176) وأحسن القصص ما قصه القرآن في كتابه قال تعالى (نحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ) (يوسف: 3) فقصص القرآن حق لا يعتريه الزيغ ولا الكذب قال تعالى (إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ) (آل عمران: 62) ولقد قص علينا القرآن حكاية أمم غابرة يذكرنا بحالهم ومآلهم قال تعالى (كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً) (طـه: 99) فذكرنا بأحوال قرى آمنت وأخرى عتت عن أمر ربها قال تعالى (تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا) (الأعراف:

101) وأردف القرآن بقصص للأنبياء لا غنى للذاكرة عنها فذكرها وأعرض عن أخرى قال تعالى (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ) وقصص الأنبياء في القرآن عبر وحكم يستنير بها الضال ويسترشد بها الحائر قال تعالى (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (يوسف: 111) .

فشأن القصة تثبيت الأفئدة وعظة من حكم الزمان مع الإنسان قال تعالى (وَكُلّاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ) (هود: 120)، وسوف نعيش في رحاب القرآن نسترشد بقصصه ونتعظ بعبره ونستفيد من أحكامه فننال من الله تعالى السداد والقبول.

ثمة الكثير من الصفات الذميمة التي لا ينبغي أن تكون موجودةً في شخصية المؤمن الصادق الحقيقي، لا سيما عدم الوفاء بالعَهد، ومن أهمِّ أشكاله، التناقض بين الأَقوال والأفعال؛ يقول الله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ، كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ» (الصف: 2-4)، ثم بين الله تعالى للمؤمنين كيف يتخلصون من هذه الصفة السيئة؛ من خلال القدوة الإنسانية التي اختارها سبحانه لتكون دليلاً ومرشداً لكلِّ المؤمنين.

ألا وهم الحواريُّون الأبرار، الذين سانَدوا سيِّدنا عيسى عليه السلام، وعاهدوه على مواصلة مسيرته في الدعوة إلى الله تعالى؛ فقال تبارك اسمه في آخر السُّورة: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ» (الصف: 14).

ويبيِّن لنا رسولنا الكريم صلَّى الله عليه وسلَّم معنى اسم «الحَواريِّين» ومن أين فازوا به؛ فيقول: «ما مِن نبيٍّ بَعَثه الله في أُمَّةٍ قَبلي إلَّا كان له من أمَّته حواريُّون وأصحاب، يأخذون بسُنَّته، ويَقتدون بأَمرِه - وفي روايةٍ: يَهتَدُون بهَديه، ويَستَنُّون بسُنَّته -، ثمَّ إنَّها تَخلُف مِن بعدِهم خُلُوفٌ، يقولون ما لا يَفعَلون..

ويفعَلون ما لا يُؤمَرون، فمَن جاهدَهم بيده؛ فهو مؤمنٌ، ومَن جاهدَهم بلسانه؛ فهو مؤمنٌ، ومَن جاهدَهم بقلبه؛ فهو مؤمنٌ، وليس وراءَ ذلك من الإيمان حَبَّة خَردلٍ)، فما هو الموقف العظيم الذي أثبت به الحواريُّون رضي الله عنهم، صِدق قولهم وتطابق سَريرَتهم مع علانيتِهم، فوَفوا به بما عاهَدوا الله تعالى عليه، على يد سيِّدنا عيسى عليه السلام؟

أمانة الدَّعوة

أرسلَ الله تعالى سيدنا عيسى عليه السلام إلى بني إسرائيل بالآيات البينات ليتبعوه، ويؤمنوا به وبدعوته، ويحدثنا سبحانه عن تفاصيل رسالته التي أرسل بها إلى بني إسرائيل؛ فيقول عزّ وجل: «وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ.

إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ» (آل عمران: 49-51)، ويقول سبحانه: «وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ، وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» (الصف: 6-7).

مبايعة الحواريين

ولمَّا كَفَر بنو إسرائيل وكذَّبوا سيِّدنا عيسى عليه السلام واتَّهموه بالسحر والدَّجل والشعوذة؛ برَز دَورُ الحَواريِّين رضي الله عنهم، الذين اختارَهم الله تعالى واصطفاهم؛ فألهَمهم الإيمانَ، وزيَّنه في قلوبهم «وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ» (المائدة: 111)، فلمَّا اشتدَّ كفرُ بني إسرائيل..

وتفاقم عَداؤُهم لسيِّدنا عيسى، وتآمَروا على قتلِه؛ طلَب عليه السلام من أصحابه الحَواريِّين أن يُبايعوه على مواصلة مسيرتِه وتبليغ دعوته بكلِّ تفاصيلها إن حَصل له شيءٌ، أو استُشهد في سبيل الله تعالى، فكانت الاستجابة العامَّة من قِبل الحَواريِّين جَميعاً إلى تلك البيعة الراشدة في موقفٍ عظيمٍ جَليلٍ نالَ الرِّضا من ربِّ العالَمين، فسجَّله وخلَّد ذِكرَه في كتابه المجيد: «فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ. رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ» (آل عمران: 52-53).

لحظات الوَداع

حُوصر سيِّدنا عيسى عليه السلام مع أصحابه، وطوَّقتهم مكائد الكفَّار من أحبار بني إسرائيل، فكان يثبِّت أصحابَه، ويشدُّ من عزيمتِهم؛ ويحثُّهم على الصبر ويبشِّرهم بالنصر، وبالفعل تأتي النجدة الإلهيَّة «وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ. إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ» (آل عمران: 54-55)، فألقى الله شبيهه على واحد من اتباعه فقتل مكانه، وأشاعوا بين الناس أنهم قتلوا المسيح عليه السلام، وهو خبر كذَّبه القرآن في قوله تعالى:

«وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً. بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً» (النساء: 157-158).

ثلاث فرق

يحدِّثنا عبدالله بن عباس رضي الله عنهما عن تفاصيل ما جَرَى فيقول: «لَمَّا أَراد الله تعالى أن يَرفَع عيسى إلى السماء؛ خَرَج على أصحابه في بيتٍ وهم اثنا عشر رجلاً من الحواريِّين، وخرج من عين في البيت ورأسُه يقطر ماءً، قال: أيُّكم يُلقَى عليه شَبَهي فيُقتل مَكاني؛ ويكون معي في درجتي؟ فقام شابٌّ من أحدثهم سِنًّاً، فقال له:

اجلسْ، ثمَّ أعاد عليهم، فقام الشابُّ فقال: أنا. فقال: اجلسْ. ثمَّ أعاد عليهم الثالثةَ، فقال الشابُّ: أنا. فقال: نَعَم، أنتَ هو ذاك. فأُلقيَ عليه شَبهُ عيسى، فرُفع من رَوزنةٍ كانت في البيت إلى السماء، وجاء الطلب من اليهود، فأَخَذوا الشَّابَّ للشَّبه، فقتلوه ثمَّ صلبوه، فتفرَّقوا ثلاثَ فرق، وقالت فرقة: كان الله فينا ما شاء ثمَّ صعد إلى السماء. فهؤلاء اليعقوبيَّة، وقالت فرقة: كان فينا ابن الله ما شاء الله ثمَّ رفعه إليه.

وهؤلاء النسطورية، وقالت فرقة: كان فينا عبدُ الله ورسولُه ما شاء الله ثمَّ رفعه الله إليه. وهؤلاء المسلمون، فتظاهَرت الكافرتان على المسلمة فقتلوها، فلم يزل الإسلام طامساً حتَّى بعث الله محمَّداً صلَّى الله عليه وسلَّم، فأَنزلَ الله عزَّ وجلَّ: «فآمنت طائفةٌ من بني إسرائيل وكفرت طائفة فأيَّدنا الذين آمنوا على عدوهم» بإِظهار محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم دينَهم على دين الكفَّار «فأصبحوا ظاهرين».

Email