إقالة العثرات

ت + ت - الحجم الطبيعي

لعب الشعراء العرب على مرّ العصور والأزمان دوراً بارزاً ومشهوداً من أجل الحض على فعل الخير وإسداء المعروف، مدافعين عن قيم الإخاء والمواساة والنبل الإنساني، كيف لا والشعر أصله من الشعور بالآخر، أنينه وهمومه وحتى أحلامه، الأمر الذي يضطلع به شاعر القوم معبراً عما يجيش بخاطر أهله متقمصاً هواجسهم وما في نفوسهم.

وإذا كانت مكارم الأخلاق شريعة اجتماعية مرعية عند العرب منذ جاهليتهم الأولى، ثم جاء الإسلام فتممها لهم بقيم الإيمان كالإيثار وحب المساكين وغوث الملهوف وكفالة اليتيم الأمر الذي تغنى به الشعراء الفحول وكرسوه حتى صار عقيدة وصفة عزيزة يتصف بها كل عربي يريد لنفسه الرفعة وحسن السيرة والصيت بين الناس، فإن عصرنا الراهن لم يعدم كذلك أهل الخير كما لم يعدم الشعراء الذين دعوا إلى الخير وامتدحوا أهله ذوي المآثر الحميدة، بمعنى أن وظيفة الشعراء التعبوية والإعلامية ما تزال متصلة وبكفاءة تحسب لهم، حفاظاً على تناغم المجتمع وتماسكه وتآزر أبنائه.

يقول الشاعر خليل مردم بك، رئيس المجمع العلمي العربي المتوفى في دمشق عام 1959م مثنياً على الخيرات وأهلها المضطلعين بها بين الناس:

صنعُ الجميلِ وَفعلُ الخيرِ إِنْ أُثِرا

أبقى وَأَحمدُ أَعمالِ الفتى أَثَرا

هذا البيت الشهير لهجت به الألسن وشنف الأسماع مثلما فعل قديماً بيت الحطيئة الأشد شهرة وموضوعه عمل الخير كذلك: مَن يَفعَلِ الخَيرَ لا يَعدَم جَوازِيَهُ.. لا يَذهَبُ العُرفُ بَينَ اللَهِ وَالناسِ. بيد أن خليل مردم بك يذهب أبعد من ذلك فيجعل قيمة الحياة برمتها مبررها في الانشغال بصنائع المعروف ومساندة المحتاجين، بل يرى أن الفرق بين الإنسان وسائر الحيوانات إنما يكمن في مواساة الإنسان أخاه الإنسان والأخذ بيده إلى مرافئ الأمان والسلامة يقول:

بَلْ لستُ أَفهم معنى للحياة سوى

حمل الضعيفِ وإنقاذ الذي عثَرا

والناسُ ما لم يواسوا بعضَهمْ فهمُ

كالسائماتِ وَإِن سمَّيتهمْ بشرا

إِنْ كان قلبك لم تعطفه عاطفةٌ

على المساكين فاستبدلْ به حجرا

هي الإغاثةُ عنوانُ الحياةِ فإِنْ

فقدتها كنت مَيْتاً طالما ما قبرا

ديني الذي عُظِّمَتْ عندي شعائرُهُ

وَدينُ كلِّ امرئٍ ما رقَّ أو شعرا

فجنةُ الخلدِ ما أَنفكُّ أَحسبها

إذا انفردت بها دون الورى سقرا

قومي: وَدعوتهمْ قد كانتِ الجَفَلى

إن كان غيرهمُ يختصُّ بالنَقَرى

المؤثرون وَلو أَعيت خصاصتهمْ

والحافظونَ إذا ما غيرهم غدرا

ثم يعمد الشاعر إلى استعراض جوانب الفضل والمعروف في ممدوحه «ابن مامة» لصنيع فعله بين الناس فاستحق عليه الثناء الجزيل، وما هذا العرض إلا لإبراز الأسوة الحسنة بين الناس حتى يقتدوا به:

مَنْ كابن مامة إيثاراً لصاحبه

يعالجُ الموتَ في الإِيثار مصطبرا

يقول: وَهو عَلَى وِرد الردى ظَمِىءٌ

من حيث صاحبه ريّان قد صدرا

لو أَعْوَزَ الماءُ أَصحابي سقيتهم

دمي وَلست عَلَى العِلاَّت معتذرا

Email