أخلاق الرجال

ت + ت - الحجم الطبيعي

لعمــرُكَ ما ضاقـت بـلادٌ بأهلهــا

ولكـــنَّ أخـلاقَ الرجــال تضيــقُ

هذا البيت مشهور جداً ومتداول بين الناس، ورغم أنه قيل في القرون الوسطى، إلا أنه لايزال يضيء الرأي ويستدل به على الحكمة حتى فيما بين السياسيين وعلماء الاجتماع وغيرهم، وقد جرى على لسان الشاعر عمرو بن الأهتم، الذي كان سيِّداً من سادات تميم، وكان خطيباً بليغاً. ومما روي عنه أنه أقبل على النبي صلى الله عليه وسلم في وفد بني تميم، فلقي إكراماً وحفاوة بين يدي رسول الله «ص»، ولما تكلم عمرو أمام النبي أعجبه كلامُهُ، وسأله الرسول الكريم عن الزبرقان بن بدر «الشاعر» فمدحه له ثم هجاه، ولم يكذب في الحالين، وحينئذ قال المصطفى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: ((إنَّ من الشعر حكماً، وإن من البيان سحراً)).

ذَرِيْنِـيْ فَإِنَّ الْبُخْلَ يَا أُمَّ هَيْثَـمٍ

لِصَالِحِ أَخْلاَقِ الرِّجَالِ سَرُوْقُ

ذَرِيْنِيْ وَحُطِّي في هَوَايَ فَـإِنَّنِيْ

عَلَى الْحَسَبِ الزَّاكِي الرَّفِيْعِ شَفِيْقُ

وَإِنِّـيْ كَـرِيْــمٌ ذُوْ عِــيَـالٍ تَـهُـمُّنِيْ

نَـوَائِـبُ يُــخشـى رِزْؤُهَـا وَحُــقُوقُ

لقد عارض الشاعر في قصيدته هذه من عذلته في جوده «أسماء أم هيثم» ولعلها حليلته التي كانت تخشى أن يذهب كرم زوجها بكل ما عنده فيفقر أولادها من بعده، وبدل أن يستجيب لندائها، طلب إليها أن تذهب مذهبه، ووصف في قصيدته الضيف الذي يطرقه في الليل في برد الشتاء، وما يلقى من عناء، ثم ما يستقبله هو به من جود وقِرى. ثم نعت عمرو بن الأهتم الجزور وهي وهو ابن البعير بنحره للضيف، وكيف عالجه الجازران. وأخيرا أثنى الشاعر الفحل على الكرم، وباهى بأصله وطيب أرومته. يقول عن حال ضيفه ثم عما قابله به من حسن خلق:

وَمُـسْتَـنْـبِـحٍ بَـعْدَ الْهُدُوْءِ دَعَوْتُهُ

وَقَدْ حَانَ مِــنْ نَـجْمِ الشِّتَـاءِ خُـفُوْقُ

يُعَالِـجُ عِرْنِيْناً مِنَ اللَّيْلِ بَارِداً

تَلُفُّ رِيَاحٌ ثَوْبَهُ وَبُرُوْقُ

تَأَلَّقَ في عَيْنٍ منَ الْمُزْنِ وَادِقٍ

لَهُ هَيْدَبٌ دَانِي الـسَّحَابِ دَفُوْقُ

أَضَـفْتُ فَـلَمْ أُفْـحِشْ عَلَـيْهِ وَلَمْ أَقُلْ

لأَحْـرِمَـهُ: إِنَّ الْمَكَانَ مَــضِيْـقُ

فَـقُـلْتُ لَهُ أَهْلاً وَسَهْـلاً وَمَـرْحَباً

فَـهَـذَا صَــبُــوْحٌ رَاهِـنٌ وَصَدِيْقُ

وَكُلُّ كَـرِيْمٍ يَــتَّـقِي الـذَّمَّ بِالْقِرَى

وَلِلْخَـيْرِ بَـيْنَ الـصَّالِـحِـيْنَ طَرِيْقُ

لَـعَمْرُكَ مَـا ضَـاقَتْ بِـلاَدٌ بِأهْلِهَا

وَلَـكِـنَّ أَخْـلاَقَ الـرِّجَالِ تَـضِـيْقُ

نَـمَـتْـنِيْ عُـرُوْقٌ مِنْ زُرَارَةَ لِـلْعُلَى

وَمِـنْ فَــدَكِــيٍّ وَالأَشَـدِّ عُـرُوْقُ

مَـكَارِمُ يَـجْعَلْنَ الْـفَتَى في أَرُوْمَةٍ

يَفَاعٍ، وَبَـعْضُ الْوَالِدِيْـنَ دَقِيْقُ

ولقد عارض هذه القصيدة العظيمة كثير من الشعراء بينهم أبوتمام، حيث افرد باباً كاملاً في كتابه الشهير«الحماسة» بعنوان: الأضياف والمديح. وأما بيت الشعر القوي التأثير هذا: لعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها.. ولكن أخلاق الرجال تضيق، فهو نسيج وحده وقد ملأ الآفاق بسحر بيانه وقوة مضمونه، ودعوته الى السماحة والمحبة وحسن الخلق، كأهم ركائز الخير.

 

Email