حكمة زهير ..امتداح الصلح والتعايش

ت + ت - الحجم الطبيعي

من منا لم يسمع بحرب داحس والغبراء، بين قبيلتي عبس وذبيان في جاهلية العرب؟ فقد كانت حرباً ثأرية متطاولة، حصدت من أرواح الخلق ما حصدت، إلى أن قيض الله لها خيراً وقع في نفوس عقلاء القبيلتين، فاحتكموا إلى رجلين صالحين من كليهما هما: هرِم بن سنان والحارث بن عوف اللذين قاما بما يجب من أعمال البر والإحسان فهدأت النفوس بوفاقهما، ولعل هذا ما دعا الشاعر الحكيم زهير بن أبي سلمى، صاحب المعلقة الشهيرة التي مطلعها «أمِن أمّ أوفى دِمنة لم تكّلمِ.. بحومانة الدرّاج فالمتثلّمِ»، لأن يقول خيراً وفيراً -وإن من الكلام لخير- في حق الرجلين الصالحين هرم والحارث:

يَمِينـاً لَنِعْمَ السَّـيِّدَانِ وُجِدْتُمَـا

                      عَلَى كُلِّ حَالٍ مِنْ سَحِيْلٍ وَمُبْـرَمِ

تَدَارَكْتُـمَا عَبْسًا وَذُبْيَانَ بَعْدَمَـا

                      تَفَـانَوْا وَدَقُّوا بَيْنَهُمْ عِطْرَ مَنْشَـمِ

وَقَدْ قُلْتُمَا إِنْ نُدْرِكِ السِّلْمَ وَاسِعـاً

                     بِمَالٍ وَمَعْرُوفٍ مِنَ القَوْلِ نَسْلَـمِ

فَأَصْبَحْتُمَا مِنْهَا عَلَى خَيْرِ مَوْطِـنٍ

                      بَعِيـدَيْنِ فِيْهَا مِنْ عُقُوقٍ وَمَأْثَـمِ

عَظِيمَيْـنِ فِي عُلْيَا مَعَدٍّ هُدِيْتُمَـا

                     وَمَنْ يَسْتَبِحْ كَنْزاً مِنَ المَجْدِ يَعْظُـمِ

وفي الحقيقة قام هذان السيدان بعمل كبير، حين وضعت الحرب الشعواء أوزراها بموجب اتفاقهما التاريخي، ولذلك كان لزاماً على زهير أن يوثق لعمل الخير الجليل هذا، وهو شاعر العقل الذي يكتب بتؤدة درراً في الحكمة وتستغرق القصيدة بين يديه سنة كاملة تشذيباً وتهذيباً ولذلك سمي بشاعر الحوليات.

العرب أعلت من شأن هذا الشعر الأخلاقي الذي يؤرخ ويوثق لقيم الخير ضمن ثقافتها، ولذلك جعلت هذه القصيدة بالذات من بين حوليات زهير جميعاً، واحدة من المعلقات السبع التي رفعت على أستار الكعبة المشرفة قبل الإسلام، تعظيماً وتشريفاً للقيم التي حوتها وكرستها.

وفي الواقع فإن زهيراً لم يكتف بالاحتفاء بصنيع سيدي عبس وذبيان: هرم بن سنان والحارث بن عوف، ولكنه احتفى بمن ارتضى بهما حكماً وارتضى ما خلصا إليه، بعد أن تحمل السيدان تكاليف ديات ثلاثة آلاف قتيل، وقيل أكثر.

والأهم من ذلك كله أنه احتفى بمكارم الأخلاق ودعا إليها في صورة مثلى من صور الوصايا المضيئة، يقول زهير بن أبي سلمى في معلقته ذاتها:

ومَنْ يَكُ ذَا فَضْـلٍ فَيَبْخَلْ بِفَضْلِـهِ

                  عَلَى قَوْمِهِ يُسْتَغْـنَ عَنْـهُ وَيُذْمَـمِ

وَمَنْ يُوْفِ لا يُذْمَمْ وَمَنْ يُهْدَ قَلْبُـهُ

                  إِلَـى مُطْمَئِـنِّ البِرِّ لا يَتَجَمْجَـمِ

وَمَنْ يَجْعَلِ المَعْرُوفَ فِي غَيْرِ أَهْلِـهِ

                  يَكُـنْ حَمْـدُهُ ذَماً عَلَيْهِ وَيَنْـدَمِ

وَمَهْمَا تَكُنْ عِنْدَ امْرِئٍ مَنْ خَلِيقَـةٍ

                وَإِنْ خَالَهَا تَخْفَى عَلَى النَّاسِ تُعْلَـمِ

لِسَانُ الفَتَى نِصْفٌ وَنِصْفٌ فُـؤَادُهُ

                 فَلَمْ يَبْـقَ إَلا صُورَةُ اللَّحْمِ وَالـدَّم.

أقوال زهير هذه سارت بها ركبان العرب أمثالاً وحكماً يرجع إليها الناس في كل حالة من صروف الدهر، ولكن شيم المعروف والخير تبقى أبداً بين الناس، مادام مثل هذا الكلام باقياً بينهم ومبجلاً.

Email