حياب بن مطر بن حاذة الكتبي مضمّر هجن الشيخ زايد:

زايد صنع كل شيء من لا شيء وسيرته عطاء ودروس وعِبر

ت + ت - الحجم الطبيعي

العظماء لا يرحلون لأنهم يتركون من طيب ذكرهم ما يبقى خالداً أبد الدهر، وتتناقل الأجيال سيرتهم غضّة حيّة كما لو أنهم يعايشونها لحظة بلحظة.

والمغفور له بإذن الله تعالى الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، رحمه الله، كان قامة إنسانية باسقة، يفوح عطره على كل من عاصره، فأصبحت يومياته معهم كنزاً ثميناً يتناقلونه بين أبنائهم وأحفادهم ميراثاً عزيزاً يستقون منه ما يهتدون به في الحياة..

هذه صفحة يومية لأناس عاصروا الشيخ زايد بن سلطان يروون أحاديث الفكر والقلب والوجدان ممزوجة بعبق المحبة الغامر.

«زايد، رحمه الله، صنع كل شيء من لا شيء، فكانت سيرته كلها دروساً وعبراً.. من الناس ومع الناس، نظرته بعيدة وحالته فريدة، ينظر للجميع كأنهم إخوانه.. السماحة والطيبة في قلبه، إذا أعطى يعطي عطية تكفي وتُغني، وإذا «رمس» رمسته تشفي.. «من خاوى زايد صار ريال».. ومن رافق زايد لا يستطيع أن ينساه، رجل سكن القلوب والعقول، وبات رمزاً للخير والحب والعطاء والوفاء، كيف ننساه..؟

فهو ماثل بيننا في كل ما حولنا من خير وأمن وأمان وحياة سعيدة، زايد يسكن الوجدان والخاطر، صانع وباني نهضة دولة الامارات».. بهذه الكلمات العطرة رسم حياب بن مطر بن حاذة الكتبي، مضمّر هجن الشيخ زايد، رحمه الله، رحلة عمر، رحلة بناء وعمل وعطاء بسخاء، رافق خلالها المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان في حِلّه وترحاله، مذ كان في التاسعة من عمره حيث كان يذهب برفقة والده إلى مجلس الشيخ زايد في مدينة العين في ستينيات القرن الماضي، ولازمه حتى وفاته، ومن رأى ليس كمن سمع، عاش وتعايش مع اللحظات الإنسانية والوجدانية في عقل وقلب المغفور له الشيخ زايد بن سلطان، طيب الله ثراه، فمن كان يصدق أن كثبان الرمال باتت واحات غناء، وعلى أرض الإمارات ترتفع أعلى وأجمل المباني، اسمها يتردد في كافة أنحاء العالم، ومن يحمل جواز سفرها يشعر بالفخر والاعتزاز والكبرياء ويحظى بالاحترام والتقدير، ومن يعش على أرضها يشعر بالأمن والأمان، هي قصة حلم لم تخطر بالبال، باتت حقيقة ملموسة وشاهد عيان.

شريط الذكريات

في مجلسه الخاص، بمنطقة الفوعة، استقبلنا «حياب» بحضور عدد من أنجاله وأحفاده، ذهبنا إليه حتى نسمع منه ما كان قد عاشه وسمعه ورآه.

فعندما تريد الحديث مع شخص عن سيرة ومسيرة زايد، رحمه الله، تجد صعوبة في تحديد كيف تبدأ الحوار ومتى تنهيه، فحياته سِفْرٌ من تاريخ مليء بالقصص والحكايات والتحولات.

قلنا له: نريد ان نتحدث عن زايد «الإنسان».. ومرت لحظات من الصمت كان فيها «حياب» يستعيد شريطا زمنيا طويلا على امتداد أكثر من خمسين عاما، وقال: زايد رحمه الله، لا يمكن اختصار حياته بأسطر أو كلمات ولا حتى في كتب ومجلدات، ومهما قلنا لن نفيَه حقه، هو حالة فريدة في زمن صعب مليء بالتحولات، أصبح رمزا وطنيا خالدا في عقل ووجدان كل واحد من أبناء وبنات الإمارات، رجل جعل من الصعب والمستحيل والمحال والحلم والخيال، حقائق على أرض الواقع، بل إعجازات لا يمكن أن تصدق ولا يمكن أن تخطر على بال.

يقول: معرفتي بالمغفور له الشيخ زايد، تعود إلى ستينيات القرن الماضي، لم يكن عمري قد تجاوز 9 سنوات، كنت أذهب مع والدي الذي عمل مع زايد منذ العام 1940 للغداء في قصر الجاهلي، كان حينذاك حاكما لمدينة العين، في ذاك الزمن الصعب، كانت الحياة مختلفة تماما عمّا نراه الآن بكل شيء، إذا تريقنا لا نتغدى، واذا تغدينا لا نتعشى، زادنا حليب النوق والتمر والعيش وبعض الخضراوات المحلية البسيطة جدا، سكننا من سعف النخيل وبيوت الشعر، شرابنا من مياه الآبار والأفلاج، نستظل اشجار النخيل نهارا ونلتحف السماء ليلا، لباسنا يكاد لا يتجاوز ما نستر به أجسامنا.

في تلك الفترة كان معظم الناس يعملون في تربية الإبل وبعض أعمال الزراعة، وبعض التجار يذهبون إلى دبي وأبوظبي مشياً على الاقدام أو على ظهور النوق حتى يأتوا لنا ببعض المواد من دهن وسمن ورز وسكر وبعض الحاجيات البسيطة لزوم حياتنا اليومية.

رحلة البداية

يقول حياب: طفولتي كانت تتمحور حول تربية الإبل والمشاركة في سباقات الهجن، كانت توضع لنا شارة، والفائز يحصل على 50 - 100 روبية في أحسن الأحوال، وكانت تكفينا لمدة شهر أو شهرين.

في مطلع عام 1970، التحقت بالجيش، الوظيفة الوحيدة المتاحة أمام الشباب، درسنا خلال مرحلة الجيش وتعلمنا القراءة والكتابة وحصلنا على شهادة الابتدائية، كانت فترة غنية تعلمنا فيها أشياء كثيرة صنعت منا رجالا أشداء، ثم التحقت بالحرس الأميري برفقة الشيخ زايد، رحمه الله، وبقيت معه طيلة حياته، قبلها لم أعمل بشيء وبعده لم أعد أعمل بشيء، سوى المهمة الوحيدة التي اختارني لها، رحمه الله، مضمّرا خاصا للهجن الخاصة به، أنا وعدد من الأشخاص، كان رحمه الله، مولعاً ومحباً للهجن، فكان يشتري النوق الفائزة بمبالغ كبيرة تعطى للمضمرين، رغم أنه هو الذي يصرف علينا وعلى العزب، حتى وصل سعر بعض النوق إلى 3 ملايين درهم، وأعطانا 5 مطايا للمنفعة الخاصة، وبعد ذلك تم فرزنا وتفريغنا لتضمير الهجن.

توليت رعاية أول عزبة خاصة للشيخ زايد في منطقة المقام، كانت عندي الناقة «هملولة» و«صوغان» و«الواعية»، فازت هملولة بخمس سيارات رنج روفر، وفاز صوغان بثلاث سيارات لاند كروز، وفازت الواعية، بسيارة نيسان بترول، وجميع هذه السيارات أصبحت ملكاً خاصا لي، وهناك ناقة كانت ملك حمد بن سهيل الخييلي اشتراها الشيخ سلطان بن حمدان آل نهيان بقيمة 5 ملايين درهم، وكان الشيخ زايد رحمه الله، قد اشترى هملولة من راشد بن سعيد الجابري بقيمة 3 ملايين درهم، وصوغان بقيمة 1.5 مليون درهم اشتراه من محمد بن علي بن حاذة الكتبي، وكانت فرحة زايد كبيرة عندما يرى الناس يفرحون، وكان يفرح عندما يستفيد المواطن.. أحد الأيام جاء إليه أحد المواطنين ممن لديهم مزارع خاصة وقال له لقد نجحت في زراعة كميات من الخضراوات، ففرح له وأمر بشراء الكميات جميعها بمليون درهم وقام بتوزيعها على الناس، فكان، رحمه الله، يشجع على الزراعة بشكل كبير، ومدينة العين شاهدة على ذلك.

حكاية الحلم

وذكر حياب أن والده، رحمه الله مطر بن حاذة الكتبي الذي عمل مع الشيخ زايد منذ العام 1940، ذكر لهم أنه سمع الشيخ زايد، رحمه الله، يقول: أنا الآن في ها العمر، والباجي من العمر سوف أخصصه لبناء دولة لا تحلمون فيها، سوف أجعل من الصحراء بحرا وواحات، وفي البحر سوف نبني البنايات، وسوف تركبون السيارات، بدل الإبل. كان هذا الكلام أشبه بالخيال، لكن لننظر الآن من حولنا، لقد بات كل ذلك حقيقة واقعة.

ونحن نعيش في قصور بدل بيوت السعف والنخيل، نركب أحدث السيارات بدل الإبل، ونأكل أفضل أنواع الطعام، نلبس أحدث لباس، ويتعلم أولادنا في أرقى المدارس والجامعات.. لقد منحنا الأراضي مجانا والقروض الميسرة طويلة الأمد لبناء بيوتنا التي تضاهي أحدث وأجمل المنازل في العالم.

وأضاف: كان، رحمه الله، يجب العطاء بسخاء، عطاء يكفي ويغني، كان يذهب إلى حيث كان يتواجد الناس تخفيفا عليهم حيث إن البعض لا تسمح له ظروفه بالذهاب للشيخ فيأتي هو، كنا نأخذ الشرهات (الكوبونات)، فأول ما حكم رحمه الله أمر سيارات الجيش بتوزيع الراشن (بطاقات خاصة تمكن الشخص من شراء وأخذ ما يريد على نفقة الشيخ زايد)، حيث يتم توزيع العيش والطحين والقناد القهوة والسكر، كما أمر بعمل شرهة عبارة عن مكافأة 800 درهم كانت تكفي لمدة سنة، وكان يذهب في كل شهر إلى مكان، يقيم بقرب الناس ليسمع منهم ويساعدهم، كان يأخذ لهم الذبائح. ولا يكتفي بذلك، بل كان يعطيهم قيمة الأشياء، قيمة الذبيحة كانت 200 درهم يدفع لهم 1000 درهم، وعطاءات زايد تجاوزت الحدود، حيث قام في العام 76 بافتتاح مدينة زايد في مصر.

سمعة عالمية

ويذكر حياب أن ما حققه الشيخ زايد من مكانة وسمعة راقية لدولة الامارات تجاوز الكثير من التوقعات، لدرجة أن عددا من الدول عندما نزورها، ويرون جواز دولة الامارات يقدمون لنا التسهيلات دون أية عقبات، احتراما وتقديرا لمقام الشيخ زايد رحمه الله، ومن ذلك أننا ذهبنا ذات مرة إلى أستراليا وعندما وصلنا المطار تم ختم الجوازات دون أية مراجعة، وقالوا لنا إن شعب دولة الامارات ورئيسها يستحقون الاحترام والتقدير.

كان، رحمه الله، يفكر ببناء الانسان وإسعاده أينما كان، يرعى الصغير والكبير، وروى الشيخ زايد قصة حدثت معه أن أحد الصحافيين سأله ذات يوم حول الخدمات والرعاية التي يقدمها للناس، لدرجة أنه لم يجعل لهم فرصة أو حاجة يؤدونها بأنفسهم، فقال له الشيخ زايد رحمه الله: هل لديك عائلة وأولاد..؟ فرد الصحافي، نعم، قال له: كيف ترعاهم وتربيهم، فأجابه الصحافي أبذل قصارى جهدي من أجل خدمتهم ورعايتهم، فرد عليه الشيخ زايد رحمه الله، هكذا هم أبناء دولة الامارات جميعهم أولادي.

حنان الأب

يقول حياب: عندما كنا نجلس معه لا تشعر بأنك أمام رئيس الدولة، بل مع أب حنون وأخ كبير. ويروي حياب: ذهبت ذات يوم إلى قصر الشيخ زايد، لتحضير القناد للضيوف، وعندما دخلت سمع صوتي، وقال لأهل بيته: من عندكم؟، فقالوا له: هذا حياب يريد القناد، فقال لهم، رحمه الله: أعطوه وأكرموه، وأنا لم أتجاوز 9 سنوات من العمر حين ذلك.

رحم الله الشيخ زايد.. فقد كان أباً حانياً وقائداً ملهماً وسيرة عطرة على مرّ الزمان.

Email