الحكمة والأمثال والبلاغة عند العرب (9)

الجمال نصيب المتأملين وفتنة الناظرين

ت + ت - الحجم الطبيعي

إذا ما اشتدت وطأة الحياة وتأزمت الكلمة وعجز العقل عن التمييز بين الواقع والخيال، أو بين الشيء ونقيضه، عندئذ نلجأ للحكمة التي هي خلاصة تجارب الناس لمئات السنين.

والحكمة لا تأتي إلا من تجربة، والتجربة لا تأتي إلا بالعمل، وقيل قديما: اسأل مجرب ولا تسأل طبيب.

فما أحوجنا اليوم لمثل تلك التجارب. نتزود بها حكمة وعبرة، بما يعزز لغتنا وقيمنا، ويتصدى لما يعتورهما من تشويه أو تقصير. وفي هذه الصفحة سأتناول مختلف المواضيع وأبحث عن التجارب وأقف معكم على صفات وأخلاقيات البشر وحالاتهم.. بين الترح والفرح، كل ذلك في وجبات يومية استخلصتها من التراث العربي الأصيل لأقدمها في هذه المساحة زاداً رمضانياً ننهل منه جميعنا.

 

ورد من البلاغة في القبح كما ورد في الجمال، ونبدأ بالجمال حيث قال الشاعر حسَّان بن ثابت يمدح رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وأحسن منك لم ترَ قطُ عيني/ وأجمل منك لم تلد النساءُ/ خُلقتَ مبرأ من كل عيبٍ/ كأنك قد خلقت كما تشاءُ.

مصباح وجه بن الزبير

 

قيل كان مصعب بن الزبير اخو عبدالله بن الزبير من أحسن الناس وجهاً، ويحكى أنه كان جالساً بفناء داره يوماً بالبصرة إذ جاءت امرأة فوقفت تنظر إليه فقال لها: ما وقوفكِ يرحمكِ الله؟ قالت: طفئ مصباحنا فجئنا نقتبس من وجهك مصباحاً.

ومما جاء في محاسن الخلق أنه من تزوج امرأة أو اتخذ جارية فليستحسن شعرها فإن الشعر الحَسَن أحد الوجهين.

قال بكر بن النطاح:

بيضاء تسحب من قيام شعرها

                  وتغيب فيه وهو وجه أسحم

فكأنها فيه نهار ساطع

                وكأنه ليل عليها مظلم.

(الاسحم بمعنى السواد).

قال عنترة بن شداد:

 فيها اثنتان واربعون حلوبة

               سُوداً كخافية الغرابِ الاسحمِ.

الجمال دين الحكماء

 

قال جبران في كتابه "الأعمال العربية الكاملة" في تقديم الدكتور نزار بريك هنيدي عن الجمال: ويا أيها الذين ضاعوا في ليل التقولات وغرقوا في لجج الأوهام، إن في الجمال حقيقة نافية الريب، مانعة الشك، ونوراً باهراً يقيكم الظلمة. تأملوا يقظة الربيع ومجيء الصبح، إن الجمال نصيب المتأملين.

ومن الشعر قيل:

يا قمراً تبسم عن أقاح

              ويا غصناً يميل مع الرياحِ

جبينك والمقبَّل والثنايا

              صباحُ في صباحٍ في صباحِ

(اقاح بمعنى الاقحوان وهو البابونج نبات طيب الريح أو الرائحة).

قال الشاعر:

سقى الله روضاً قد تبدى لناظر

              به شادن كالغصن يلهو ويمرح

وقد نضحت خداه من ماء ورده

               وكل إناء بالذي فيه ينضحُ

وقال آخر:

أقسم بالله وآياته

             ما نظرت عيني إلى مثله

ولا بدا وجهه طالعاً

              إلا سألت الله من فضله.

قال شاعر وهو يحب فتاة سمراء:

قالوا تعشقتها سوداء قلت لهم

            لون الغوالي ولون المسك والعود

إني امرؤ ليس شأن البيض مرتفعا

              عندي ولو خلت الدنيا من السود

ويأتي قول جبران مكملا: اصغوا لأنغام الطيور وحفيف الأغصان، وخرير الجدول إن الجمال قسمة السامعين. انظروا وداعة الطفل، وظرف الشاب وقوة الكهل، وحكمة الشيخ، إن الجمال فتنة الناظرين.

تشببوا بنرجس العيون، وورد الخدود، إن الجمال يتمجد بالمتشببين. قدسوا القلب مذبحا للحب إن الجمال يجازي المتعبدين ثم أنشد:\

 يا نفسُ ما العيشُ سوى

             ليلٍ إذا جنَّ انتهى

بالفجر، والفجر يدومْ.

             وفي ظما قلبي دليل

على وجود السلسبيل

               في جرة الموت الرحومْ

يا نفسُ إن قال الجهول

             الروحُ كالجسمِ تزول

وما يزول لا يعود

            قولي له إنَّ الزهور

تمضي ولكنَّ البذورْ

           تبقىَ، وذا كنه الخلودْ

قيل في العيون

 

إنَّ العيونَ التي في طرفها حَوَرٌ

          قتلننا ثم لم يحيين قتلانا

يصرعن ذا اللبِّ حتى لا حراك به

           وهن اضعفُ خلقِ الله إنسانا

قال شاعر:

 إذا يدٌ سرقتْ فالقطع يلزمها

          والقطع في سرقٍ بالعين لا يجبُ

وقال آخر:

لو كان رقة خصره في قلبه

           ما جار قط على المحب ولا جنىَ

أما ابو فراس الحمداني فقال:

 يا من يلوم على هواه جهالة

            انظر الى تلك السوالف تعذر

حسنت وطاب نسيمها فكأنها

               مسك تساقط فوق خد احمر

وقال آخر:

 ما زال يحلف لي بكل آلية

              أن لا يزال مدى الزمان مصاحبي

لما جنىَ نزل العذار بخده

                 فتعجبوا لسواد وجه الكاذبِ

(الية بمعنى اليمين، ولما جنىَ بمعنى لما نضج).

جبران والجمال

 

يقول جبران عن الجمال في كتاب النبي: لكنكم في الحقيقة لم تتحدثوا عنه، إنما عن حاجتكم التي لم تشبع. فما الجمال حاجة بل نشوة، ولا هو فم ظامئ أو يد ممدودة، بل قلب ملتهب ونفس مسحورة. ولا هو الصورة التي تتمنون رؤيتها، أو الأغنية التي تودون سماعها. بل هو صورة ترونها وعيونكم مطبقة، وأغنية تسمعونها وآذانكم مغلقة.

وان الجمال ليس عصارة في غصن مجروح أو جناح مشدود إلى مخلب بل هو جنة دائمة الازدهار، وسرب من الملائكة يرفرف دائما. فيا أهل أورفليس الجمال هو الحياة حين ت رفع القناع عن وجهها المقدس. فأنتم هم الحياة وأنتم هم القناع، الجمال هو الأبدية تحدق إلى ذاتها بمرآة. فأنتم هم الأبدية وانتم هم المرآة.

 

ومما قيل في الوجه الحسن لابن نباتة:

أنيسة في مثال الجن تحسبها

                   شمساً بدت بين تشريق وتغميم

شقت لها الشمس ثوباً من محاسنها

                  فالوجه للشمس والعينان للريم

البُنان المخضَّب

 

قال ابن الرومي:

 وقفت وقفة ببابِ الطاقِ

                 ظبية من مخدرات العراق

بنت سبع وأربع وثلاث

                   أسرت قلب صبها المشتاقِ

قلت من أنت يا غزال فقالت:

أنا من لطفِ صنعة الخلاقِ

لاترم وصلنا فهذا بُنان

قد صبغناه من دم العشاقِ

وقال آخر:

ولما تلاقينا رأيت بنانها

                  مخضبة تحكي عصارة عندمِ

فقلت خضبت الكف بعدي أهكذا

                    يكون جزاء المستهام المتيمِ

فقالت

وأذكت في الحشا لاعج الهوى

                     مقالة من بالود لم يتبرمِ

بكيت دماً يوم النوى فمسحته

                    بكفيَّ فاحمرت بناني من دمي

نصيب القبح والبشاعة من الوصف

 

قال الجاحظ وهو صاحب كتاب البخلاء وكتاب الحيوان: ما أخجلني قط إلا امرأة مرت بي إلى صائغ فقالت له: اعمل مثل هذا، فبقيت مبهوتاً، ثم سألت الصائغ فقال: هذه امرأة أرادت أن أعمل لها صورة شيطان، فقلت: لا أدري كيف أصوره؟ فأتت بك إليَّ لأصوره على صورتك.

وفي الجاحظ يقول الشاعر:

لو يمسخ الخنزير مسخاً ثانياً

                       ما كان إلا دون قبح الجاحظِ

رجل ينوب عن الجحيم بوجهه

                       وهو القذي في عين كل ملاحظِ

(القذي بمعنى ما يدخل العين من غبار وما شابه).

ثواب أو عذاب

 

قال الأصمعي: رأيت بدوية من أحسن الناس وجها ولها زوج قبيح فقلت لها: يا هذه أترضين أن تكوني تحت إمرة هذا؟ فقالت: يا هذا لعله أحسن فيما بينه وبين ربه فجعلني ثوابه، واسأت فيما بيني وبين ربي فجعله عذابي، أفلا أرضى بما رضي الله به؟

قيل: وصل رجل قبيح الوجه إلى اليمن ولم يصادف أحسن منه وجها فقال:

 لم أرِ وجهاً حسناً

                منذ دخلت اليمنا

فيا شقاء بلدة

                أحسن من فيها أنا

خطب رجل ضخم الأنف امرأة فقال لها: قد عرفتِ أني رجل كريم المعشر محتمل المكاره، فقالت: لا شك في احتمالك المكاره مع حملك هذا الأنف أربعين سنة.

قال الشاعر:

 لك أنفٌ ذو أنوف

                 أنفت منه الأنوفُ

أنت في القدس تصلي

                وهو في الشام يطوفُ

وهذا يشبه قول الشاعر:

كل بغيضٍ قدهُ إصبع

               وأنفهُ خمسةُ أشبارِ

الجمال الأسود

 

قيل في الجمال الأسود حيث الجمال هو الكون والكون هو الجمال ولكل ذوق متاع والنفس تواقة إلى كل ما هو جميل.

قال الشاعر:

لا أعشق الأبيض المنفوخ من سمن

                        لكنني أعشق السمر المهازيلا

وقال آخر:

لام العواذل في سوداء فاحمة

                    كأنها في سواد القلب تمثالُ

وهاهم في الخالِ أقوامٌ وما علموا

                  أني اهيم بشخص كله خالُ

قال الشاعر:

 يكون الخال في خدٍ قبيحٍ

                   فيكسوه الملاحة والجمالا

فكيف يلام ذو عشق على من

                   يراها كلها في الخد خالا

وقال آخر:

فاستحسنوا الخال في خدٍ فقلت لهم

                      إني عشقت مليحا كله خالُ

وقال أحدهم:

أشبهك المسك واشبهته

                    قائمة في لونه قاعدة

لاشك إذ لونكما واحد

                    أنكما من طينة واحدة

العمائم تيجان العرب

 

قيل أيضاً: ان العمائم تيجان العرب، ويقال ان الزبير بن العوام يقاتل يوم بدر وعليه عمامة صفراء. وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبدالرحمن بن عوف إلى دومة الجندل فتخلف عن الجيش، وأتى إلى رسول الله وعليه عمامة سوداء فنقضها رسول الله صلى الله عليه وسلم وعممه بيده وأسدلها بين كتفيه قدر شبر وقال: هكذا اعتّم يا بن عوف. وبعث ملك الروم إلى النبي صلى الله عليه وسلم جبة ديباج فلبسها ثم كساها عثمان. وكان سعيد بن المسيب يلبس الحلة بألف درهم ويدخل المسجد، فقيل له في ذلك، فقال: إني أجالس ربي.

وهكذا الثياب الجميلة والأنيقة مهمة في حياتنا اليومية ولا يقبل الذهاب إلى المساجد بثياب غير لائقة كثياب النوم كما يشاهد الآن في هذا الزمن من كثيرين، فهذه الثياب قد لا تكون طاهرة للصلاة، وهي في العموم ليست لائقة لملاقاة الله.

وصية حكيم

 

قال حكيم لابنه: إياك أن تلبس ما يديم الملأ نظره إليك، واعلم أن الوشي لا يلبسه إلا اثنين لست أحدهما، وعليك بالبياض. قال بعض الأمراء لحاجبه: أدخل عليَّ عاقلاً، فأتاه برجل، فقال: بم عرفت عقله؟ قال: رأيته يلبس الكتان في الصيف، والقطن في الشتاء، والملبوس في الحر، والجديد في البرد.

الحديث عن الجمال لا ينتهي.. فيقال: كن جميلاً ترى الوجود جميلاً، وكن شقياً تشقى، و.. كن عجولاً تندم، وكن متفائلاً تجد الخير. وإلى لقاء الغد.

 

جمال الثياب

 

ولجمال الثياب نصيب من الوصف، فقيل فيها: المروءة الظاهرة الثياب الطاهرة، وقيل: البس البياض والسواد فإن الدهر هكذا بياض نهار وسواد ليل.

ومما قيل في لبس السواد:

 رأيتك في السواد فقلت بدراً

                  بدا في ظلمة الليل البهيمِ

والقيت السواد فقلت شمس

                 محت بشعاعها ضوء النجومِ

Email