ابن العوام الإشبيلي.. رائد علوم الفلاحة والنباتات

ت + ت - الحجم الطبيعي

الإنسان والأرض ثنائية ضاربة بأصولها في القدم، وعلاقة أشبه في قداستها بوشائج القرابة والدم، وقصة يحفظها الإنسان عن ظهر قلب، فإن دقَّق النظر لم يجد في خاطره من ذكريات عهده بها إلا مثلما يجده من ذكرياته في بطن أمه، ومع ذلك لا يحتاج إلى حُجج دامغة بأنه منها خُلق وإليها سيعود، ولا يطيق أن يكتم في صدره حنينه الدائم إليها.

أحسنَ يحيى بن محمد بن أحمد، الشهير بـ«ابن العوام الإشبيلي»، المتوفى سنة 580هـ، التعبيرَ عن حبه للأرض، إذ وجد نفسه مأخوذاً بالاهتمام بعالَم النبات والفلاحة، ليكون نتاج ذلك أن قدَّم للإنسانية الكثير من المعارف التطبيقية والأبحاث الزراعية التي لم يرد ذكرها في الكتب القديمة، معتمداً على التجارب الميدانية المباشرة، ثم نقْل الملاحظات والنتائج العلمية ووضْعها في صورتها النظرية، فابتكر الري بالتنقيط الذي طبَّقه بوساطة الجرار الفخارية التي تنقل الماء نقطةً نقطةً، وكان له الفضل في إبداع البيوت المحمية للنباتات التي كان يطلق عليها اسم «البيوت المكنَّة»، وكذلك أشار إلى ضرورة التقويم الزراعي وأهميته وعمل على تطويره، ليصبح بحق، عملاقاً في حقل الفلاحة حسبما يصفه المستشرق الفرنسي لوسيان لوكلير.

ويبدو أن بلاد الأندلس التي شهدت مرحلة مشرقة في الحضارة الإسلامية، كانت مناخاً ملهماً للنابهين من أمثال ابن العوام، إذ تحكي كتب التراجم أنه وُلد بمدينة إشبيلية في القرن السادس الهجري، في كنف أسرة ثرية امتلكت أراضي على الضفة اليمنى لنهر الوادي الكبير الذي يصب في المحيط الأطلسي، شكَّلت بالنسبة إلى الابن الفذ معملاً مفتوحاً لتجاربه الزراعية التي ساقه شغفه إلى تطبيقها هناك، وذلك بعدما نشأ كأبناء عصره على حفظ كتاب الله وطلب علوم الشريعة والتفقه في الدين، واعتنى بدراسة العلوم التجريبية الداعمة له في مجال تخصصه الذي أولع به، وأخذ يزاوج بين النشاط التطبيقي الذي هو فيه والنشاط العقلي المرتكز على مطالعة الكتب والمؤلفات التي توافرت بين يديه.

585

وفي كتابه «الفلاحة الأندلسية» الذي تُرجم إلى الفرنسية والإسبانية واتسم بغنى مادته العلمية، قدَّم ابن العوام وصفاً دقيقاً لأكثر من 585 طريقة لزراعة نباتات مختلفة، منها ما يتعلق بالأشجار المثمرة، واستطاع أن يتعرَّف أطوار نمو النباتات وصفاتها، ونبَّه في غير موضع على التجارب العلمية التي أجراها بنفسه، كما حدَّد أنواع التربة والنباتات التي تختص بكل واحدة منها دون غيرها، مؤسِّساً لعدد من المصطلحات والتسميات التي انفرد بها.

موسوعة شاملة

وتميز الكتاب مع هذا بالترتيب والتنسيق، وبالجمع بين الأمانة العلمية في العرض والاستشهاد وبين سلاسة الأسلوب ورشاقته، إضافة إلى الروح الدينية التي ظهرت في تقديمه له ببعض الأحاديث النبوية عن الزراعة وعمارة الأرض، ولعل هذه العوامل مجتمعةً هي التي هيَّأت الكتاب ليغدو موسوعة شاملة للمختصين في هذا الفن، أُعجب بها المستشرق الألماني ماكس ميرهوف فقال: «إنه أحسن الكتب العربية في العلوم الطبيعية، وخاصة علم النبات».

ولارتباط الزراعة بالبيطرة، نجح ابن العوام أيضاً في توسيع دائرة معارفه، لتشمل هذا العلم الذي ظهرت براعته فيه، من خلال ما تحدث عنه في مؤلفاته مما يتعلق بأمراض الحيوانات المستأنسة من المواشي والطيور، وما تحتاج إليه من الأعلاف، وغيرها من المتطلبات التي تعينها على أن تعيش حياتها الطبيعية وينتفع بها الإنسان.

 

Email