الجبرتي الكبير عمدة الأنام وفيلسوف الإسلام

الجبرتي

ت + ت - الحجم الطبيعي

في القاهرة المحروسة، حيث رواق الجبرت بالأزهر الشريف، يجلس الشيخ حسن وسط جمع من الطلاب، جاؤوا إليه من أوروبا ليدرسوا الهندسة، وليحلَّ لهم رموزها العصيَّة، ثم يعودوا إلى بلادهم ناشرين هذا العلم النافع، وها هو يعاملهم بخلق الإسلام، فلا يضنُّ عليهم بشيء من علمه، بينما يرقب سان بريست، سفير فرنسا في الأستانة، اضمحلال الدولة العثمانية، ليحض حكومته على احتلال مصر.

لم يكن الشيخ حسن بن إبراهيم بن حسن الجبرتي (1110-1188هـ) سوى عالم من علماء الفقه والعربية، إذ شرع في حفظ القرآن الكريم، ودخل في عداد طلاب العلم بالأزهر، شأنه كشأن آبائه الذين يرجع أصلهم إلى بلاد الجبرت في الحبشة، فدرس على أئمة عصره علومَ الدين، إضافة إلى علم الجبر والمقابلة والمساحة والحساب، وذلك منذ توفي والده وكفلته جدته أم أبيه، وصار وصيّاً عليه رجل من ذوي الدين والمهابة اسمه محمد النشرتي، حتى أصبح فقيهاً حنفياً نابهاً، وتصدَّر للإفتاء، وزاحم شيوخ الأزهر وعلماءه المتقنين.

34

لكنَّ تحوُّلاً اعترى الشيخ الجبرتي وهو في الرابعة والثلاثين من عمره، حين وجد نفسه مجذوباً إلى دراسة علوم الحضارة، فاتجه إلى ملازمة من عُرفوا في عصره بمدارستها، وأقبل على مطالعة الذخائر المحفوظة في مكاتب القاهرة العامرة، وظل عشر سنوات يحصِّل العلم في الرياضيات والفلك والجغرافيا والهندسة والكيمياء وغيرها، حتى استطاع بذكاء أن يكشف اللثام عن أسرار العلوم القديمة التي لم يكن في زمنه من يعرفها بصورة مكتملة، التي مثَّلت العلم النظري من جهة، ومن جهة أخرى التطبيق العملي الذي نسميه بلغة عصرنا «التكنولوجيا».

120

لا يزال الشيخ يشرح بصبر لطلابه كلَّ غامض وخفيّ، مما يعينهم على استخراج الصنائع البديعة، مثل طواحين الهواء وجرّ الأثقال واستنباط المياه وغير ذلك، إنه حقاً إمام حوى علوم الحضارة جميعاً، حتى النجارة والخراطة والحدادة والسمكرة والتجليد والنقش عَلِمَها وأتقنَها، ولجأ إليه مَهَرة الصنَّاع يستفيدون من علمه، وحرص على إفادة الناس، حتى علَّم خدمه في بيته، بل مارس الصناعات بنفسه، وصار بيته يزخر بكل أداة وآلة.

20

ويحكي لنا عنه ابنه المؤرخ عبد الرحمن الجبرتي في كتابه «عجائب الآثار في التراجم والأخبار»، ويطيل النَّفَس في الحديث عنه خلال أكثر من مئة وعشرين صفحة، واصفاً والده بأنه «عمدة الأنام وفيلسوف الإسلام»، وناقلاً أخباره مع الشيوخ والتلاميذ والسلاطين والأمراء الذين اتصلوا به واستفادوا من علمه، وعلى الرغم من أنه ذكر عنه عدم اعتنائه بالتأليف، أورد له قرابة عشرين رسالة، منها «المفصحة فيما يتعلق بالأسطحة».

ظلم وعدوان

انتهى الدرس، وطوى الشيخ ما بين يديه من الكتب، وانفضَّت حلقة طلاب العلم، وعلى الجانب الآخر أخذ الفرنسيون يُعدُّون العُدَّة لغزو مصر، وبعد نحو عشرين سنة من وفاة الجبرتي الكبير، تدخل الحملة الفرنسية الأزهر بخيولها، ويُعمل جُندها السيف في طلبته وشيوخه، وينهبون الكتب والمخطوطات، في مأساة كتب فصولها عبد الرحمن الجبرتي في تاريخه، سارداً كيف مدَّت الحضارة العربية الإسلامية يديها إلى الإنسانية جمعاء بالعلم النافع، بينما امتدت أيدي آخرين إليها بالظلم والعدوان.

Email