ابن النفيس طبيب أنارت كتبه واكتشافاته ظلمات العصور

ت + ت - الحجم الطبيعي

هذا القلب النابض بين جنبيك، يخفق بفرحك وحزنك، وتراه متحداً معك في حالَيْ اللذة والألم، تحسُّه يُحلِّق في الفضاء إذا صادفك ما يُرضي.

وينحدر من علياء إذا أفزعك مكروه، تفنَّن الشعراء في وصفه، فهو عندهم راهب يسكن الضلوع ولا ينفك يدق ناقوسه، وحين تفكِّر في حقيقته يُحيِّرك أمره، وعندها تنتابك رغبة في مطالعة سيرة العِلم في سبيل الكشف عن سره.

ظل العالَم قروناً من الزمن يجهل الإسهام العلمي الذي قدَّمه علاء الدين علي بن أبي الحَرَم القَرَشي، المعروف بـ«ابن النفيس»، المتوفى سنة 687هـ، بسبب ضياع الكثير من مؤلفاته، حتى وقع الباحث محيي الدين التطاوي عام 1924م على مخطوط في مكتبة برلين بعنوان «شرح تشريح القانون».

يُثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن ابن النفيس أول من اكتشف الدورة الدموية الصغرى، بعد أن فنّد ما أشاعه جالينوس بأن الدم ينتقل من الجانب الأيسر للقلب من ثقوب دقيقة لا تراها العين.

وقبل أن يعلن الطبيب الإنجليزي وليام هارفي سنة 1628م في كتابه «دراسات تشريحية تحليلية لحركة القلب والدم في الحيوان» أنه اكتشف الدورة الدموية، مغفلاً الإشارة إلى المصادر العربية السابقة له.

علَم فذ

ترجع نسبة علاء الدين القَرَشي إلى القَرَش، وهي قرية بالشام كان مولده فيها، بينما تلقَّى تعليمه في دمشق على يد طبيب العيون البارع مهذب الدين عبد الرحمن الدخوار، كما رحل إلى القاهرة وعمل في البيمارستان الناصري الذي أصبح رئيساً له، وعميداً للمدرسة الطبية الملحقة به.

وصدق حدسُ ابن النفيس حين اعتدَّ بعلمه فقال: «لو لم أعلم أن تصانيفي تبقى بعدي عشرة آلاف سنة ما وضعتها»، فقد نجح الدكتور يوسف زيدان عام 1420هـ/1999م في جمع جزء كبير مما تناثر من مخطوطات تلك التصانيف من مختلف مكتبات العالم ونشر نصوصها محققةً، ودرس شخصية هذا العلَم الفذ في كتابه «علاء الدين (ابن النفيس) القَرَشي، إعادة اكتشاف».

مصحّحاً جملة أخبار شاعت حوله، بدءاً بلقب «ابن النفيس» الذي كان أول من أطلقه عليه الذهبي في «تاريخ الإسلام» ثم تلقفه بعده من ترجموا له، في حين اختفى هذا اللقب تماماً من مخطوطات القرن السابع الهجري التي كتبها الرجل بخطه، كما كتبها تلاميذه وشُرَّاح كتبه والأطباء الذين جاؤوا من بعده، وانتهاءً بدعوى أنه عاش حياته عزباً، التي تدحضها كتاباته المشتملة على الحديث عن امرأته وابنه محمد.

عارف متعمق

وفيما يتعلق بوصف علاء الدين القَرَشي بأنه مكتشف الدورة الدموية الصغرى، رأى الدكتور يوسف زيدان ذلك أمراً مضحكاً، موضحاً أن العلاء اكتشف الدورتين الدمويتين الصغرى والكبرى.

وقدَّم وصفاً باهراً لكيفية الإبصار ودور الدماغ في الإدراك البشري، وصاغ المعارف الطبية والصيدلانية صياغتها التامَّة في كتابه «الشامل في الصناعة الطبية»، الذي يُعدُّ أكبر موسوعة علمية في التاريخ الإنساني يكتبها شخص واحد.

وتوصَّل إلى طرائق علاجية مبتكرة عديدة في عصره، وإلى حقائق تشريحية دقيقة في أجزاء الجسم الإنساني، وكذلك أثرى ابن النفيس المكتبة العلمية بكتب أخرى، من أهمها: «شرح تشريح القانون»، و«الموجز في الطب».

يحفل تاريخنا العريق بأعلام بارزين أسهموا في بناء صرح الحضارة الإسلامية، وكانوا وما زالوا نجوماً مشرقة في سماء العلم، نذروا أنفسهم لخدمة البشرية كافة، وقدَّموا جهوداً مشرِّفة في مجالات شتى، منها الطب والرياضيات والفيزياء والكيمياء والفلك، وغيرها من العلوم الإنسانية، وأثَّرت جهودهم في النهضة الأوروبية تأثيراً اعترف به الأوروبيون أنفسهم.

وخلال شهر رمضان المبارك، تحيي «البيان» ذكرى هؤلاء العلماء، وترحل مع القارئ في عوالمهم الفسيحة، كاشفةً اللثام عن إنجازاتهم التي شكَّلت حلقة في مسيرة التطور، والتي قد اعترى بعضَها النسيان والظلم التاريخي أحياناً.

Email