الخوارزمي.. رياضي وفلكي مهد لابتكار الحاسوب

ت + ت - الحجم الطبيعي

يحفل تاريخنا العريق بأعلام بارزين أسهموا في بناء صرح الحضارة الإسلامية، وكانوا وما زالوا نجوماً مشرقة في سماء العلم، نذروا أنفسهم لخدمة البشرية كافة، وقدَّموا جهوداً مشرِّفة في مجالات شتى، منها الطب والرياضيات والفيزياء والكيمياء والفلك، وغيرها من العلوم الإنسانية، وأثَّرت جهودهم في النهضة الأوروبية تأثيراً اعترف به الأوروبيون أنفسهم.

وخلال شهر رمضان المبارك، تحيي «البيان» ذكرى هؤلاء العلماء، وترحل مع القارئ في عوالمهم الفسيحة، كاشفةً اللثام عن إنجازاتهم التي شكَّلت حلقة في مسيرة التطور، والتي قد اعترى بعضَها النسيان والظلم التاريخي أحياناً.

في أجهزة الحاسوب التي نجلس أمام شاشاتها في البيت أو العمل، وفي هواتفنا المحمولة الممتلئة بالتطبيقات، لا تمر ساعة واحدة من ليل أو نهار، من دون أن تجري مجموعة تعليمات وخطوات رياضية ومنطقية متسلسلة، تؤدي إلى حل مسألة معينة والوصول إلى نتائج محددة اعتباراً من معطيات ابتدائية، التي اصطُلح على تسميتها باللاتينية «Algorithm»، وهو تحريف للاسم العربي «الخوارزمي».

استطاع العالم المسلم محمد بن موسى الخوارزمي، المتوفى سنة 232هـ، أن يحفر اسمه عميقاً في جدار التاريخ الإنساني، حين وضع في كتابه «الجبر والمقابلة» الأساس العلمي لحل المعادلات الخطية والتربيعية التي كانت من قبله تمثل ألغازاً معقَّدة تستغلق على الأفهام، وابتكر مصطلحات لم تكن معروفة مثل «الجذر» و«المفرد» و«العدد»، وبحث قواعد الجمع والطرح والضرب والقسمة، مُظهِراً مقدرة فائقة على فهم إمكانات الجبر الواسعة، بحلِّ المسائل الهندسية بطرائق جبرية.

إيضاحات ودراسات

وجمع في كتابه مسائل متفرقة في التراث العلمي الرياضي للهنود والمصريين واليونانيين، ورتَّبها وفسَّر ما فيها من تعقيد وغموض، مضيفاً إليها الكثير من المبادئ والقوانين التي جعلتها سهلة سلسة في غاية الوضوح، ليقدِّم للبشرية على تباعد العصور مادةً علمية قابلة للتطبيق والاستفادة منها في ميادين شتى، كانت القاعدةَ المتينة التي بنى عليها الأوروبيون أركان نهضتهم العلمية، حتى وصف المؤرخ البلجيكي في كتابه «مقدمة من تاريخ العلوم» النصف الأول من القرن التاسع الميلادي بـ«عصر الخوارزمي».

«هكذا قال»

وُلد الخوارزمي في مدينة خوارزم بإقليم خراسان، ثم انتقل إلى قرية قرب بغداد اسمها قطربل، حيث عاش طفولته وتعلَّم مبادئ القراءة والكتابة والحساب، وفي العشرينيات من عمره سافر إلى بغداد، إذ ساقه شغفه بالعلم إلى أن التحق بمكتبة «بيت الحكمة» التابعة للخليفة العباسي المأمون، منضمّاً إلى صفوة العلماء آنذاك، وهناك درس الرياضيات والجغرافيا والفلك.

لاحظ الخوارزمي صعوبة في أسلوب كتابة الأرقام العربية التي لم تكن تختلف حينها عن الأرقام الرومانية، إضافة إلى عدم وجود الصفر قيمةً عددية، ما يعوق إجراء عمليات حسابية معقدة، فلقد كانت الحسابات تجرى بأشكال من الرموز، ولكل رقم من الأرقام رمزه الخاص به، وكانت الرموز تتخذ أشكال الحروف الأبجدية أو ما يقابلها في كل لغة، فاستعان الخوارزمي بسعة اطلاعه على ثقافات الأمم الأخرى، ولا سيما الهنود، وتمكَّن من وضع الأرقام العربية على أساس الترقيم المطوَّر في الرياضيات الهندية الذي يحتوي على النظام العشري، وهو النظام الذي استفاده الغرب من كتاب «الجمع والطرح وفق النظام الهندي» الذي يبدأ ككثير من الكتب اللاتينية بعبارة: «هكذا قال الخوارزمي».

«الحالة المستحيلة»

ومن المسائل التي أسهم فيها الخوارزمي اكتشاف «الحالة المستحيلة» التي قادت، بعد أن بنى عليها علماء كثر، في ما بعد، إلى معرفة علم التحليل المركَّب، الذي يُعدُّ أحد أهم العلوم الرياضية في العصر الحديث.

وأما في علم الفلك، فألَّف الخوارزمي جداول فلكية تُرجمت إلى اللاتينية في العصور الوسطى مجموعةً في كتابه «الزيج»، وهي كلمة تعني -وفقاً لابن خلدون- «قوانين لحساب حركات الكواكب وتعديلها للوقوف على مواضعها». ولديه الكثير من الاختراعات.

Email