الحسن بن الهيثم .. عالم الضوء والبصريات الموسوعي

ت + ت - الحجم الطبيعي

يحفل تاريخنا العريق بأعلام بارزين أسهموا في بناء صرح الحضارة الإسلامية، وكانوا وما زالوا نجوماً مشرقة في سماء العلم، نذروا أنفسهم لخدمة البشرية كافة، وقدَّموا جهوداً مشرِّفة في مجالات شتى، منها الطب والرياضيات والفيزياء والكيمياء والفلك، وغيرها من العلوم الإنسانية، وأثَّرت جهودهم في النهضة الأوروبية تأثيراً اعترف به الأوروبيون أنفسهم.

وخلال شهر رمضان المبارك، تحيي «البيان» ذكرى هؤلاء العلماء، وترحل مع القارئ في عوالمهم الفسيحة، كاشفةً اللثام عن إنجازاتهم التي شكَّلت حلقة في مسيرة التطور، والتي قد اعترى بعضَها النسيان والظلم التاريخي أحياناً.

منذ أبصر الإنسان النور في هذه الحياة، كان الإبصار لديه لغزاً مظلماً، تحيط به تساؤلات لا تنتهي، عن الطبيعة التي هو جزء منها، وكوامن ذاته التي يجهلها، ولأن الخيال مرآته التي يرى فيها ما يحب أن يصدِّقه، أطلق العِنان لأوهامه، عساها أن تريح طوفان تفكيره الذي لا يكفُّ عن الجريان، أو تملأ فراغات الصورة في بؤرة رؤيته لعجيب صُنع الخالق.

رجل بين كثيرين ممن ركنوا لفلسفة «نظرية الانبعاثات» التي زعمت أن الإبصار يحدث اعتماداً على أشعة ضوء تنبعث من العين، لم يسعْه أن يحيا رهين أساطير الأولين، أغلق على نفسه حجرته المظلمة، فتسلل بصيص الضوء من ثقب ضيق خلفه، ليرى على الجدار انعكاسات صور الحياة مقلوبةً أمامه.

ويدرك حينها كيفية عمل العين البشرية، وهي الفكرة ذاتها التي استُوحي منها اختراع آلة التصوير «الكاميرا»:«camera»، التي تعني باللاتينية الحجرة المظلمة.

354 هـ

وُلد الحسن بن الهيثم عام 354 هـ في البصرة، ورحل إلى القاهرة حيث عاش معظم حياته، في عصر هو أزهى عصور الحضارة الإسلامية من الناحية العلمية، تمت فيه ترجمة الكتب اليونانية إلى اللغة العربية، وبدأت مرحلة الإبداع والابتكار، فظهر أعلام الطب والفلسفة والكيمياء والعلوم، فما كان منه إلا أن اطلع في شبابه على هذه الثروة العلمية، وعمل على استيعاب المعارف بدأب وإخلاص، وأخذ يرسم خطة حياته.

وتحت قبة على باب الجامع الأزهر، انقطع الحسن للبحث والدراسة والتأليف، فاكتشف ظاهرة انكسار الضوء عند مرور الأشعة من وسط معيَّن إلى وسط غير متجانس معه.

وأن الانعطاف يكون معدوماً إذا مرت الأشعة وفق زاوية قائمة، ووضع بحوثاً فيما يتعلق بتكبير العدسات، ممهِّداً لاستعمال العدسات في معالجة عيوب العين، وقدَّم وصفاً صحيحاً لأجزاء العين، مفسِّراً الكيفية التي ترى بها، وتوصَّل إلى شرح صحيح لسبب ازدياد حجم الشمس والقمر عندما يقتربان من الأفق.

رياضي وفيزيائي

ومع كونه رائداً للبصريات، نجح ابن الهيثم في أن يصبح عالماً موسوعياً، وأن يُدلي بدلوه في مجالات شتى، مُقدِّماً إسهامات عظيمة في العلوم عموماً، خاصة الرياضيات والفيزياء، ولقد أعانه على ذلك استخدامه منهجاً علمياً يقوم على الاستنتاج الاستنباطي بعيداً عن التكهن والتخمين.

وتتسم مؤلفات ابن الهيثم بالقدرة على التحرر الفكري والجرأة على الاختلاف مع مَن تقدموا عليه، وأهمها كتاب «المناظر» الذي سلم من الضياع الذي مُنيت به كثير من كتبه، ويُعدُّ من أكبر الكتب استيفاءً لبحوث الضوء وأرفعها قدراً..

وقد تُرجم إلى اللاتينية فاستفاد منه الأوروبيون أيما استفادة، حتى إنه ظل المرجع الرئيس لعلم البصريات في أوروبا خلال القرن السابع عشر الميلادي، هذا إلى جانب كتاباته الأخرى مثل «ميزان الحكمة».

ولعل من الخصال التي تحلَّى بها الحسن بن الهيثم الإصرار والمثابرة، إذ تعرَّض في طريقه العلمي لصدمة شديدة، حينما رحل إلى مصر لتنفيذ فكرته لتنظيم فيضان النيل، ولكن بعدما حدد مكان إقامة المشروع في مدينة أسوان، أدرك استحالة تطبيقه وفقاً لإمكانات عصره، ومع ذلك لم يلبث أن نهض من كبوته، وواصل نجاحاته في أبحاثه الأُخَر.

 

Email