من أفطر لعذر

ت + ت - الحجم الطبيعي

من رحمة الله تعالى بعباده أنه جعل تكاليف الشريعة الإسلامية على المسلم بحسب الوسع والطاقة، فرفع عن أهلها الكلفة والحرج، كما قال سبحانه: {مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ} ولذلك سمى الله هذه الشريعة ملَّةً حنيفية أي مائلة عن الغلو والتفريط، كما قال الله عز وجل {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}.

ومِن رفع الحرج عن العباد في العبادات أن الله تعالى جعلها على حسب الوسع والطاقة كما قال جل ذكره: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} وقال سبحانه: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} وقد كان تشريع الصيام على أساس القدرة والاستطاعة، فرفع الله تعالى الحرج عن المرضى والمسافرين وكبار السن، فلم يكلفهم الصيام لمظنة المشقة عليهم، وشرع لهم الفطر إن أرادوا والقضاء عند الاستطاعة، أو إلى بدل عنه إن استمر العجز إلى ما لا نهاية، وجعل هذا التشريع المرخص مقرونا بتشريع الصيام نفسه، وكرر الرخصة مرتين بأسلوب واحد ليُعلم مراد الله تعالى من عباده بلا لبس، فقال جل شأنه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} ثم قال في الآية التالية {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} فزاد في الآية الثانية بيانا لعباده أن تشريعه لهم مقرون بإرادته التيسير عليهم، فحيث التزموا بمبدأ العبودية له سبحانه وتعالى، فإنها مقدورة لهم بحسب مراده سبحانه من أدائها بيسر وسهولة، وكان من مظاهر هذا التيسير أن المريض والمسافر والعاجز لكبر أو المرأة المعذورة بعذرها الشرعي أو الحامل أو المرضع التي هي أيضا في حالة ضعف فتحتاج إلى ما يجبر ضعفها من الغذاء، ومثلهم من أرهقه الجو أو العطش بحيث لم يقدر على مواصلة الصوم بعد أن كان قد شرع فيه، فإنه معذور بعذر الله تعالى، فله أن يفطر ويقضي أياماً بأيام من عموم السنة -عدا الأيام المنهي عن صيامها- فإن كان عذره دائما من مرض مُزمن أو شيخوخة؛ فإن المطلوب منهم هو إطعام المساكين بقدر الأيام التي أفطروها، ليكون ذلك دليلاً على امتثالهم المأمور، وإسهاماً منهم في نفع خلق الله تعالى من المسلمين الذين يحتاجون إلى معونة اجتماعية، فهم فقراء الله وخلقه، والمال مال الله تعالى وللعبد كسبه وأجره، فكان ذلك غاية في تخفيف الله تعالى على عباده، وقد كان صلى الله عليه وسلم يحث أمته على تقبل رخص الله تعالى وعدم الإشقاق على أنفسهم، فيقول صلى الله عليه وسلم: «إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تترك معصيته» وفي رواية «إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته» حتى لا تحمل بعض الناس رغبتهم في العبادة أن يزهدوا في شرع الله تعالى، ويروا أن ما يأتون به أفضل مما شرع، ومن هنا قرر أهل العلم أنه إذا كان المرء يرى أن الصوم أفضل له من الأخذ بالرخصة فإن عليه أن يأخذ بالرخصة حتى لا يكون هواه متحكماً في التشريع الإلهي، وقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك في قصة الرجل الذي رآه في سفر قد ظُلِّل عليه، فقال: «ما هذا؟» فقالوا: صائم، فقال: «ليس من البر الصوم في السفر» أي ليس هذا الفعل من أفعال البر، بل البر أن يتقي الله تعالى بحسب قدرته وطاقته، وهذا فيه إضرار بالنفس قد يكون سبباً في عجزه عن عبادات أخر.

نسأل الله تعالى أن ييسر لنا مراده منا، ويتقبل صالح أعمالنا ويتجاوز عن سيئها إنه جواد كريم.

Ⅶ كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء بدبي

Email