صيام الكفارات والنذور والنوافل

ت + ت - الحجم الطبيعي

لما كان الصيام مزكيا للأخلاق ورافعاً للدرجات وماحياً للسيئات؛ فإن الشارع قد جعله كفارة لكثير من الانتهاكات أو التقصير في العبادات، فجعله كفارة لقتل النفس خطأ، مع أن الخطأ لا إثم فيه، ولكن عظمةُ حرمة النفس لدى الشارع الحكيم جعلته يرتب عليه دية وكفارة، كما قال سبحانه:

{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا } أي أنّ قتل النفس البريئة ليس من منهج أهل الإيمان بتاتا.

وإنما قد يكون مثل ذلك خطأ من غير قصد، وعندئذ فإن هذه النفس التي حرمها الله تعالى لا تذهب هدراً، بل لا بد من ترتب تبعات عليها، وهي الدية التي تذهب لورثة القتيل، تقدمها عاقلة القاتل وعصبته، أو شركات التأمين، أما القاتل يقدم بنفسه حقا لله تعالى الذي خلق النفس وكرمها وأوجب صونها، وهو أن يصوم لله تعالى شهرين متتابعين لا يفصل بينهما بفطر يوم، غير شهر رمضان، أو الأيام التي لا يصح صومها، وهي يوما العيدين وأيام التشريق الثلاث، وذلك حتى يتزكى بالتقوى التي هي ثمرة الصيام، وذلك حينما لا يجد تحرير رقبة مؤمنة.

وكذلك من قال منكراً من القول وزوراً بأن ظاهر من امرأته وهو أن يحرمها عليه كما تحرم عليه أمه، مع أن الله تعالى قد أباحها له بعقد النكاح الذي هو ميثاق غليظ، فإذا تعدى حدود الله وحرم ما أحله الله تعالى فإنه يكون قد أتى منكراً من القول وزوراً، فإن هو أبقاه ولم يبادر بطلاقها حتى تحرم عليه بالفعل فإنه لا يغسل هذا الذنب شيء غير أن يصوم لله تعالى شهرين متتابعين غير شهر رمضان.

وذلك حينما لا يجد تحرير رقبة مؤمنة. كما قال الله جل ذكره: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.

ومن حلف بالله تعالى أو باسم من أسمائه أو صفة من صفاته فأثم بالحنث، فإن عليه أن يغسل هذا الحنث بصيام ثلاثة أيام إن لم يجد إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو تحرير رقبة مؤمنة كما قال الله جل وعلا {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ}.

ومن ارتكب محظوراً من محظورات الإحرام من حلق أو قلم للأظفار أو دهن أو لبس؛ فإن عليه أن يغسل ذنبه بصيام ثلاثة أيام إن لم يشأ أن يقدم هديا أو يطعم ستة من مساكين الحرم كما قال الله تعالى {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ}.

ومثل ذلك من ترك واجباً من واجبات الحج أو تمتع أو قرن فإن عليه أن يصوم عشرة أيام ثلاثة في أيام الحج وسبعة إذا رجع أهله كما قال سبحانه: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}.

ونحوه من صاد صيد الحرم أو صاد صيد البر وهو محرم فإن عليه جزاء مثل ما قتل من النعم فإن لم يجد فليصم بعدل أمداد الطعام أياما { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ}

كل ذلك لما للصوم من أثر في تكفير الخطايا ومحو السيئات لعظم منزلته عند الله تعالى.

نسأل الله تعالى أن يكفر عنا سيئاتنا ويرفع درجاتنا ويطهرنا تطهيراً، بمنه وكرمه.

* كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء بدبي

Email