الصيام في الشرائع

ت + ت - الحجم الطبيعي

أخبرنا الله جل ذكره أن فريضة الصيام التي كتبها علينا هي من الشرائع القديمة التي افترضها على أنبيائه ورسله أجمعين؛ لأن الله تعالى أراد أن يتزكى عباده به، ويتقربوا به إليه فيحبهم كما يحب الصيام، فهو أحب العبادات إليه كما صح في الحديث «والذي نفس محمد بيده، لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك» وطيب رائحة الخلوف يعني محبة الله تعالى للصوم والصائم، فلذلك لم يَخلُ شرعٌ عنه.

قال أهل التاريخ: أول من صام رمضان نوح عليه السلام لما خرج من السفينة. ومعلوم أنه كان قبل نوح أمم كثيرة وإن من أمة إلا خلا فيها نذير، قد كلف بشرائع الإسلام التي افترضها الله تعالى على كل أمة في كل ملة، كما قال سبحانه: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} وقال سبحانه: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}. ولذلك قال مجاهد: كتب الله رمضان على كل أمة إلا أن تلك الأمم لم تحفظ عهد الله فيما شرع لهم، فزادوا ونقصوا وغيروا وبدلوا، فحُرموا من هذا الشهر الكريم ليكون من خصائص هذه الأمة المحمدية التي هي آخر الأمم وأخيرُها عند ربها، والشاهدة عليها، وأفضلها أجراً وأكثرها عدداً في الجنة.

فالتشبيه فيه راجع إما إلى وقت الصوم وقدره، فإن الله تعالى كتب على قوم موسى وعيسى صوم رمضان فغيروا، وزاد أحبارهم عليهم عشرة أيام ثم مرض بعض أحبارهم فنذر إن شفاه الله أن يزيد في صومهم عشرة أيام ففعل، فصار صوم النصارى خمسين يوماً، فصعب عليهم في الحر فنقلوه إلى الربيع.

وقيل: التشبيه راجع إلى أصل وجوبه على من تقدم، لا في الوقت والكيفية.

وقيل: التشبيه واقع على صفة الصوم الذي كان عليهم من منعهم من الأكل والشرب والنكاح، فإذا حان الإفطار فلا يفعل هذه الأشياء من نام. وكذلك كان في النصارى أولا، وكان في أول الإسلام مثل ذلك، ثم نسخه الله تعالى بقوله:«{أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم} وقيل غير ذلك..

والمهم أن في الآية الكريمة تسليةً للمسلمين بأن من كان قبلنا كانوا أكثر صوماً منا، ومع ذلك فنحن أكثر أجراً منهم، وأنه لا بد لنا من أداء هذه الفريضة العظيمة التي هي أحد مباني الإسلام كما قال صلى الله عليه وسلم:»بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان)

وقد كان فرضه علينا معشر المسلمين أيسر من فرضه على غيرنا، حيث فرضه على الصحيح دون المريض، وعلى القوي دون العاجز، وعلى المقيم دون المسافر، وعلى السليمة من الأعذار الشرعية دون من كانت بعذر نفاس أو حيض أو حمل أو إرضاع، وإن كان قد أوجب على هؤلاء القضاء، ولكن على سبيل التراخي لا الفور كما قال سبحانه: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} كما أن تشريعه لنا قُرن بما يعين على أدائه بكامل رغبة وبالغ تطلع، حيث بين سبحانه أن هذه الفريضة سبب لحصول التقوى التي هي سبيل الفوز في الدنيا والآخرة، كما قال سبحانه: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} أي لتكتسبوا بهذه الفريضة التقوى التي هي زادكم إليه ولباسكم بين يديه، والتي تكسبكم فلاح الدنيا، وترقيكم إلى أعلى مراتب الآخرة، ففريضة تحقق لك ذلك كله، جدير بأن يحرص عليها المؤمن أشد الحرص، ولذلك كان الصيام سياحة المؤمن في ملكوت الله تعالى بالمراقبة الدائمة حتى تكون المراقبة سجية المؤمن، ومن هنا ندب الشارع إلى الحفاظ على حقيقة الصوم وجوهره، لا أن يكون صوماً عن الطعام والشراب وشهوة النساء فقط؛ بل لما هو أبعد من ذلك وهو الصوم عن المباحات فضلاً عن المحرمات والتلذذ بمناجاة الله والقرب منه بالاستقامة على طاعته وحسن عبادته.

نسأل الله تعالى أن يحقق فينا معاني الصوم ويجعلنا ممن يباهي بهم الله ملائكته الكرام.

Email