سعيد القيشي.. «نديب» الفرح ونداء الحماسة

الندبة وأخواتها.. فنون قبلية على رؤوس جبال الخليج العربي

ت + ت - الحجم الطبيعي

كبار المواطنين هم سارية الوطن وشراعه المخضب بالتقاليد والإرث العريق، مداد الأخلاق وحبر الوطنية الخلاصة، فقد كرسوا حياتهم للنهوض بالوطن وبناء أجيال تنبض قلوبهم بالهوية، تقاطعات جيل ما بعد الألفية تشد وثاق سفنها «أدقال» أجيال الاتحاد لتنقلها إلى شواطئ الثقافة العالمية وإيقاعها الذي يتجلى بالمعاصرة والمحافظة على الموروث، فنحن لا نعيش بين زمنين، بل نصنع لحظاتنا بين ذكريات استثنائية وإنجازات تستشرف المستقبل.

 

امتزجت حياته بالفرح العامر وإثارة الحماسة في نفوس الرجال أينما ارتحل، يقف شامخاً وظله جبل، يرفع ساعده الأيمن وكفه يعانق الغمام وكأنه يقبضه بكفه، ويغطي في الوقت ذاته فمه بكفه الأيسر وهو يتنفس بعمق وارتياح مَن سيفاجئ ضيوفه بقدراته الصوتية، بعد أن تجاوز الثمانين من عمره، وفي لحظة يغمض الوالد سعيد القيشي الشحي عينيه ويصيح بكلمات لم نفهم معناها، ولم نكن بحاجة لذلك، فخلت كل الأصوات من حولنا إلا من صوته، وتوقف الزمن أمام روعة الأداء وبراعة تقنياتها هبوطاً وصعوداً وتلاعباً بالكلمات لتسري في أجسادنا إيقاعها المنظوم بدقة ساحرة تتلبس كل من يسمع ويشاهد.

اللهجة العامية

وفي السياق يؤكد الوالد سعيد أن الكلمات عربية وفصيحة، ولكنها تختلط باللهجة العامية لدى الشحوح التي تقلب بعض الحروف، وبذلك يصعب على المتلقي فهمها بشكل صحيح، ودون تفسير، ففي اللغة الندب: أن يندب الإنسان قوماً إلى أمر أي يدعوهم إليه، وقولنا انتدبه للأمر فانتدب له أي دعاه له فأجاب، وفلان ندب فلاناً أي جعله مندوباً عنه. وهكذا صارت الندبة نداء للحماسة وبث الحمية وإعلان الفرحة عند النصر، وكذلك إعلان الابتهاج في المناسبات. وهي لدينا تقول: «هو هو هو يا ولد الشحوح هو هو هو»، حيث يتم يتكرر هذا المقطع من قبل «النديب»، ولا بد أن يتمتع بخبرة وبطبقة صوتية مدربة على هذا النوع من الفنون، حيث يردد من حوله بصوت مرتفع «هو، هو هو» خلال الندبة التي يقوم الرجال بتأديتها خلال 3 فصول بينها استراحة لمدة 30 دقيقة، ويختتم النديب من خلال «كسرة» وهي الفصل الأخير بقولة «شو حو» ويكررها 3 مرات متتالية وهي في الأصل تكرار للفظ الجلالة «الله»

أداء احتفالي

ويشير الوالد سعيد إلى أن العادة جرت أن تكون «الندبة» من أهم المظاهر الشعبية المرتبطة بالترحيب بقدوم شيخ القبيلة، وفي حالة زيارة ضيف مرموق، وكذلك تتقدم الندبة خلال تبادل الزيارات بين أبناء قبائل الشحوح، إلى جانب كافة المناسبات الوطنية والمجتمعية كالزواج والأعياد الدينية، التي ارتبطت في السابق بفكرة إثارة الحماس في نفوس الرجال قبل خوض الحروب ولقاء العدو، والتي تؤدي على اختلاف مناسبتها التي ذكرتها في وقت محدد وهو بعد الانتهاء من تناول طعام، الذي كان في السابق يتكون من خبز يُعرف لدى الشحوح بـ (السفاع)، ويقدم معه الجبن والعسل والتمر والقهوة، والتي حلت محلها الوليمة التي باتت عامرة بالذبائح والتي يشترط أن تكون مكتملة الرأس تقدم على صينية كبيرة مغطاة بالأرز، وعند الانتهاء من تناول الطعام، مع ترك رأس الذبيحة في الصينية، يتجمع كل 10 رجال ويطلق على هذا التجمع «كبكوب» قبل التوجه لغسيل الأيدي ويقفون بشكل دائري وفي الوسط تلك الدائرة يقف النديب والرجال من حوله في الكبكوب يرددون ما يقول.

سرحه العرس

وفيما تعلق بفن الرواحة وأسباب تسميته بذلك يقول الوالد سعيد، إن حلقة الرواح والتي يقصد بها الترويح عن النفس وأصل التسمية تكون غالباً من أعضاء ينتمون لعائلة واحدة، وقد يلاحظ وجود ثلاثة أجيال في الفرقة الواحدة الجد ثم الأب ثم الابن يتبعون بعضهم بعض، وقد يصل عددهم إلى 50، فالرواح بدوره ينقسم إلى ثلاث مراحل أولها (السرحة) وهو نوع من الأهازيج الخاصة يصدرها الرجال في الكبكوب من طلوع الشمس حتى انتهاء العرس، ويشتهر الرواح بلغة خاصة تستخدم فيها كلمة (سيرحي) وتعني السير في الصباح الباكر، وهي من سرح يسرح سرحاً وهي عند الشحوح تعرف بالسرحة، أما (صود ري) في اللحن الثاني من الرواح والذي يبدأ من طلوع الشمس إلى الساعة الثانية عشرة ظهراً، و«صود ري» تعني من صدر يصدر صدوراً فهو ظاهر وبارز، أما المرحلة الثالثة فتعرف بالرواح ويستمر فيها اللحن من بعد صلاة العصر إلى صلاة المغرب

سيوف طائرة

ويوضح الولد سعيد أن رزيفة الشحوح تختلف عن الرزيفة التقليدية، في استخدام الرقص بالسيوف برمي السيوف في الهواء إلى مسافات بعيدة، شرط أن يكون السيّاف محترفاً في رمي السيف واستعادته مرة أخرى من المكان نفسه الذي قام بإلقائه منه، وإن لم يكن كذلك فعليه أن يتحرك بالاتجاه الذي يتحرك به السيف شرط ألا يقع منه على الأرض، كما يشترط أن يلقاه من النصلة وهي المسكة المخصصة لمسك السيف، وإن لم يتمكن من إمساك السيف من النصلة فعليه أن يمسكه بأي صورة كانت، فمن العيب أن يسقط السيف على الأرض.

خط الدفاع

وفي ختام اللقاء أكد الوالد سعيد أن الشحوح قبيلة عربية يعود نسبها تاريخياً إلى لقيط بن الحارث بن مالك بن فهم، والمعروف عن أبنائها تمركزهم في أعلى المناطق الجبلية التي تطل على مضيق هرمز، والتي تمتد من جزر سلامة وبناتها شمالاً إلى جبل حبس جنوباً ودبا شرقاً والدارة وشعم غرباً، وهي امتداد تضاريسي وطبيعي وتتداخل فيها الحدود والسدود والسهول والوديان والمرتفعات الجبلية والخلجان بين الإمارات العربية وسلطنة عمان، وكانت قبيلة الشحوح الدرع وخط الدفاع الأول عن المنطقة ككل على مر العصور عند بوابة مضيق هرمز، للوقوف ضد الفرس والبرتغاليين.

دراسة توثيقية

هناك العديد من الكتب والمراجع التي تناولت تاريخ قبيلة الشحوح والكثير من عاداتهم وتقاليدهم، ومن أهمها كتاب «حياة الشحوح» دراسة تراثية في الأحوال الاجتماعية والعادات والأعراف والتقاليد، تأليف عبد الله بن راشد لقيوس الشحي، رئيس مجلس إدارة جمعية الشحوح للفن الشعبي بأبوظبي، وخلال فصول الكتاب تم استعراض العديد من العادات والتقاليد ذات الصلة بالبيئة الجبيلة في العديد من الجوانب الاجتماعية، حيث يذكر المؤلف أن الشحوح قبيلة عربية كريمة الأصل يسكن أبناؤها منطقة رؤوس الجبال في الخليج العربي وتمتد هذه المنطقة من فم الخليج إلى الداخل حتى تصل مدينة «دبا» المطلة على خليج عمان وتنتشر شمالاً لتصل وترتبط بجبال الإمارات العربية المتحدة، وبذلك فإن مساكن الشحوح وقراهم وديارهم موجودة وموزعة بين المناطق الجبلية في دولة الإمارات. ونظراً لأن غالبيتهم يسكنون منطقتهم المسماة «رؤوس الجبال» فهم قوم جبليون، أي يغلب عليهم الطابع الجبلي لمنطقة الجبال الصخرية الوعرة العالية في الإمارات، وعليه فإن نمط معيشتهم يختلف عن النمط المعيشي الصحراوي أو البحري الغالب على أهل الخليج.

طبل «الرواح»

لا تكتمل أهازيج الفرح المرتبطة بالفنون الشعبية لدى الشحوح دون أداء «الرواح» الذي يزاوج بين إيقاع الطبل، وأصوات الرجال الغارقة في الهيبة والحماسة، التي تثيرها تلك الطبول التي تصنع من حفر جذع شجرة السدر والتي يجوف قلبها لتصبح على شكل أُسطواني ليشد عليها بعد ذلك جلد الماعز الذي يعتبر من أهم أجزاء الطبول، حيث يحدد نوعية الصوت، فعن طريق السمك وكذلك طريقة معالجة الجلد يأتي الاختلاف في الأصوات والنغمات، التي تزين كافة المناسبات التي تحظي بمشاركة جماعية، حيث يقف الرجال كل رجل يحمل طبلاً إلى جانب بعضهم البعض في صف طويل وحيد به القليل من الميلان ويبدأ الجميع في القرع على الطبول منفردة في تشكيلات متغيرة.

في سطور

«الكبكوب» شكل من أشكال النداء الاحتفالي خاصة في مناسبة الزواج، وهو متفرع من خصائص أداء فن الندبة التي يذكر خلالها الرجال ثلاث مرات عبارة أولاد شح أو شحوح، في حين لا يتعين في نداء الكبكوب ذكر تلك العبارات ويكتفي بالنداء التقليدي ومن ثم تتحرك الحشود الأتية متقدماً نحو مكان العرس، ويتقدم هؤلاء الحشود شباب أبطال يحملون السيوف ويرمونها للأعلى دلالة على القوه وعدم الخوف ويمسكون بها دون الخوف من حدة السيوف القاطعة واللعب بالسيف والتفنن به.

Email