رمضان شهر الإحسان

ت + ت - الحجم الطبيعي

شهر رمضان شهر تتجلى فيه العبودية لله تعالى بأبهى صورها وأعظم معانيها، لأن العبد يترقى في كمالات العبودية ودرجاتها حتى يبلغ درجة الإحسان التي هي أعظم معاني العبودية لله رب العالمين كما بينها حديث جبريل في سؤاله عن الإسلام والإيمان والإحسان؟ قال: «أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك»

وعبادة الله كأنك تراه هي مقام المراقبة لله تعالى الذي يعني أن تشهد الله في جميع تصرفاتك، بحيث تراقب أمره ونهيه، فلا تقع في المحظور، ولا تترك المأمور، وهو ما يكون عليه حال الصائم الذي يعلم أن صومه سر بينه وبين ربه سبحانه، فيصون سمعه وبصره وبطنه وفرجه وجميع حواسه، حيث تكون جميعها في مقام مراقبة الله تعالى كما كان عليه حال السلف الصالح، وكما قال جابر رضي الله عنه: «إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمآثم، ودع أذى الخادم، وليكن عليك وقارٌ وسكينة يوم صيامك، ولا تجعل يوم فطرك ويوم صيامك سواء» أي أن يوم الصوم له شأن آخر يجب على المتحلي به مراعاته، وهو معنى المراقبة الدائمة لله تعالى في نهار الصوم، بل وشهره، وهو معنى الإحسان الذي هو ذروة مراتب الإيمان.

فإن لم يفعل ذلك بأن لم يصن جوارحه عن المحرمات، ولم يحملها على فعل الطاعات، فلربما كان صومه جوعاً وعطشاً، لا يحمل معنى الصوم الحقيقي الذي هو الإمساك عن جميع ما حرم الله، وفي ذلك يقول المصطفى صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم: «من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه»

وفي ذلك يقول بعضهم:

إذا لم يكن في السمع مني تصاونٌ في بصري غضٌّ وفي منطقي صمتُ

فحظي إذاً من صوميَ الجوعُ والظماء وإن قلتُ إني صائمٌ يوماً فما صمتُ.

والإحسان اسم عام لكل ما يمكن أن يكون فيه، والمسلم متعبد به في جميع شؤونه، كما قال صلى الله عليه وسلم: «إن الله كتب الإحسان على كل شيء» وهو تفسير لقوله تعالى {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} فالإحسان يرقِّي العبد إلى درجة المحبوبية لله تعالى

وأول ذلك؛ الإحسان إلى النفس بالعمل لها في ما ينفعها في دنياها وأخراها، وذلك بحسن التعبد لله من صدق الإيمان، وأداء الأركان، والرضا عن الرحمن، وحسن التوكل عليه، والمحبة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وكثرة ذكر الله وشكره، وتعهد كتابه والعمل به.. إلى غير ذلك من مقامات العبودية لله تعالى. فإن هذا الإحسان نفعه مباشر ويجده في دنياه وآخرته.

ثم يأتي في المرتبة الثانية الإحسان إلى الناس بما ينفعهم، من القول الحسن والفعل الحسن، فقد أمر الله تعالى بأن يكون قول المرء دائماً حسناً كما قال سبحانه: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} فهو أمر عام في جميع الأحوال والأقوال ولعموم الناس، وقد خص غير المسلمين بالذكر في آيات أخر كما في قوله سبحانه {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} وقوله عز شأنه {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}.

والفعل الحسن كذلك أمرنا به في جميع الأعمال ولا سيما في مقام التعامل مع الناس وحواراتهم كما قال تعالى: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} أو في عمل الإنسان لنفسه كما قال صلى الله عليه وسلم: «أحسنوا صلاتكم، وأتموا ركوعكم وسجودكم» وقال عليه الصلاة والسلام: «أحسنوا إذا وُلِّيتم، واعفوا عما ملكتم».

وفي مقام الإحسان إلى الغير بالعطاء والبذل والسخاء وهو من أهم مظاهر الإحسان الذي أمر به المسلم، والذي وعد الله تعالى عليه أجراً عظيماً، فقد آذنهم بمحبته في آيات كثيرة، ووعدهم الجزاء، والزيادة، والقرب منه سبحانه، أي من رحمته وفضله، وعدم ضياع أعمالهم وأجرهم، كما قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}

كل ذلك لإحسانهم لأنفسهم بالإيمان والعبادة والاستقامة، وإحسانهم لغيرهم بالقول والفعل والعطاء

فإذا كان كل ذلك حاصلاً للمحسنين عموماً ففي شهر رمضان أعظم ثواباً، وأهلوه أحسن مقيلاً. جعلنا الله جميعاً من المحسنين؛ لنجزى بجزائهم {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} [الرحمن: 60].

Email