معركة ملاذ كرد.. ألب أرسلان يقهر الروم

ت + ت - الحجم الطبيعي

تعد معركة ملاذكرد نقطة تحول في التاريخ الإسلامي بصفة عامة وتاريخ غربي آسيا بصفة خاصة؛ لأنها أسهمت في القضاء على نفوذ الروم في أكثر أجزاء آسيا الصغرى، وفتحت الطريق لزحف جديد، زرع بذور تأسيس الدولة العثمانية. اندلعت معركة ملاذ كرد في رمضان سنة 463هـ بين المسلمين، ممثلين في دولة السلاجقة، وبين الإمبراطورية الرومية في قسمها الشرقي. وملاذ كرد بلدة حصينة من بلاد آسيا.

ألب أرسلان

هيأ الله تعالى عظماء كثيرين على مر تاريخ هذه الأمة، ومنهم القائد ألب أرسلان، ويكفي تعريفاً بهذا الإنسان ما قاله فيه ابن الأثير (الكامل: 6/ 252): «كان رحيم القلب، رفيقاً بالفقراء وكثير الدعاء بدوام ما أنعم الله عليه، اجتاز يوماً بمرو على بعض الفقراء، فبكى، وسأل الله تعالى أن يغنيه من فضله..

وكان يكثر الصدقة، فيتصدق في رمضان بخمسة عشر ألف دينار، وكان في ديوانه أسماء خلق كثير من الفقراء في جميع ممالكه، عليهم الإدرارات والصلات، ولم يكن في جميع بلاده جناية ولا مصادرة، قد قنع من الرعايا بالخراج الأصلي يؤخذ منهم كل سنة دفعتين رفقاً بهم».

كانت معارك وفتوحات ألب أرسلان لا تروق لإمبراطورية الروم، وكما يذكر سبط ابن الجوزي في كتاب (مرآة الزمان: 20) أغضبت فتوحات ألب أرسلان أرمانوس ديوجينس إمبراطور الروم، فصمم على القيام بحركة مضادة للدفاع عن إمبراطوريته. ودخلت قواته في مناوشات ومعارك عديدة مع قوات السلاجقة، قال ابن كثير (البداية والنهاية: 12/ 108):

«وفيها أقبل ملك الروم في جحافل أمثال الجبال من الروم والفرنج، وعدد عظيم وعُدَد، ومعه خمسة وثلاثون ألفاً من البطارقة، مع كل بطريق مئتا ألف فارس، ومعه من الفرنج خمسة وثلاثون ألفاً، ومن الغزاة الذين يسكنون القسطنطينية خمسة عشر ألفاً».

رفض الهدنة

استطاع ألب أرسلان أن يخطف المبادرة بضربة حققت له تقدماً أولياً في المعركة، غير أنه على الرغم من طلائع النصر التي بدأت في الظهور ظلَّ جزعاً خائفاً من تفوق الروم عدداً وعدةً؛ مما دعاه إلى طلب الهدنة التي رفضها أرمانوس، ظناً منه أنها بادرة ضعف في صفوف المسلمين..

فقرر السلطان المضيَّ في المعركة، فصلَّى بجنده ظهر الجمعة، وبكَى وخضع خشوعاً وتأثراً، ولبس البياض، وتحنَّط الجنود استعداداً للاستشهاد في المعركة، فجاهد مكفَّناً حتى أظفره الله تعالى على عدوِّه، وأُسر أرمانوس الذي تكبَّر على المسلمين، وسخر منهم عند طلب الهدنة.

أسباب النصر

لقد كان ألب أرسلان رجلاً صالحاً أخذ بأسباب النصر المعنوية والمادية، فكان يقرب العلماء ويأخذ بنصحهم، وما أروع نصيحة أبي نصر محمد بن عبد الملك، في معركة ملاذكرد، عندما قال للسلطان ألب أرسلان: إنك تقاتل عن دين وَعَدَ الله بنصره وإظهاره على سائر الأديان. وأرجو أن يكون الله قد كتب باسمك هذا الفتح، فالقهم يوم الجمعة في الساعة التي يكون الخطباء على المنابر، فإنهم يدعون للمجاهدين.

عندما انتصر ألب أرسلان في المعركة لم يتكبر ولم يتطاول كما يفعل المنتصرون الغالبون، بل نزل عن فرسه ومرَّغ وجهه في التراب؛ إعلاناً منه أنه متذلل لله سبحانه عابد طائع له.

العفو عند المقدرة

لقد أسس دين الإسلام أخلاقاً لم تبلغها أمم الأرض مجتمعة من التسامح مع كل الناس، حتى وإن كانوا أعداء، فعلى الرغم مما أشيع عن الترك والسلاجقة من قوتهم العسكرية والمادية، فإن مشهد أسر أرمانوس بين يدي الملك ألب أرسلان يدل دلالة قاطعةً على تملُّك فضيلة التسامح في نفس المجاهدين المسلمين..

حيث تحكي كتب التاريخ أنه لما وقف أرمانوس بين يدي الملك ألب أرسلان قال له: لو كنت أنا الأسير بين يديك، ماذا كنت تفعل؟ قال: كل قبيح. قال: فما ظنك بي؟ قال: تقتلني وتشهرني في بلادك. فما كان من الملك ألب أرسلان إلا أن عفا عنه. هذا الموقف السامي يحمل في طياته أكبرَ ردٍّ على مَن يتهمون حركة الفتوحات وينالون منها.

لقد كان الجهاد عند المسلمين عبادةً، ولم يكن في يوم من الأيام استطالةً على أحد باسم القوّة، ملكوا فسامحوا؛ لأنهم كانوا يسيرون باسم الله حقاً، يريدون إسعاد الخلق بدلالتهم على ربهم.

نقطة تحول

لقد كان نصر ألب أرسلان بجيشه الذي لم يتجاوز عشرين ألف مقاتل على جيش الإمبراطور أرمانوس الذي بلغ مئتي ألف، حدثاً كبيراً، ونقطة تحول في التاريخ الإسلامي؛ لأنها أدت إلى إضعاف نفوذ الروم في معظم أقاليم آسيا الصغرى، وهي المناطق المهمة التي كانت من ركائز وأعمدة الإمبراطورية البيزنطية. وهذا أسهم تدريجياً في القضاء على الدولة البيزنطية على يد العثمانيين.

Email