معركة البويب.. إيمان وإعداد

ت + ت - الحجم الطبيعي

في الثاني عشر من شهر رمضان سنة 13هـ - 634م، نشبت معركة البويب الفاصلة بين الفرس والمسلمين، على عهد الخليفة الفاروق عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، التي قادها قائد عبقري، هو المثنى بن حارثة.

ليست الحروب والمعارك في قواميس المسلمين عقائد مجردة عن التجهيز، ولا عتاداً مجرداً عن العقيدة، بل هي معادلة لها طرفان: إيمان وإعداد، يتناغمان كي يحصل النصر المؤزر الذي يرضي أهله ليفرحوا بنصر الله.

هذان المبدآن المتسايران جمعهما القرآن الكريم وحض عليهما، فقال تعالى (إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم)، وقال (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل). يتبين هذا جلياً في معركة البويب، التي انتصر فيها المسلمون على الفرس، بعد معركة الجسر.

هزيمة معركة الجسر

قاد معركة الجسر، أبو عبيد بن مسعود، ويذكر المؤرخون أن السبب الرئيس في هزيمة معركة الجسر، هو عدم التزام قائدها بمشورة عمر رضي الله عنه، حيث قال له: «لا تفشِ لك سراً، واستشر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم».

فقد فصلَ بين جيش المسلمين وجيش الفرس فرعٌ من نهر الفرات، وكان عليه جسر، فأشار عليه أصحابه ألا يعبر المسلمون الجسر إلى الفرس، لأنهم بذلك يضيق بهم المكان، ويصيرون فريسة سهلة للأعداء، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن المسلمين اعتادوا على القتال في الصحراء، فبقاؤهم قبل الجسر يعطيهم الفرصة للعودة إلى الصحراء، التي خبروا القتال فيها، فلا يستطيع الفرس النيل منهم هناك. لم يصغِ إليهم أبو عبيد سمعاً، واستأثر برأيه، فعبر الجسر، وحدث ما توقعه أصحابه، فقد ضاق المكان عليهم، وكانت الفيلة تقاتل في صفوف الفرس، حتى قتل المسلمون في هذه المعركة شر قتلة، وعلى رأسهم قائدهم أبو عبيد، الذي داسته إحدى الفيلة فقطعته أشلاء.

وزاد الطين بلة، حين قام أحد الجنود بقطع الجسر، ظناً منه أنه يجعل المسلمين يكرون على أعدائهم ويستبسلون في القتال، وهو ما ضاعف من أعداد الشهداء.

معركة البويب

انسحب المثنى بقواته بعد إصلاح الجسر، فوجد حامية صغيرة من الفرس تسير على نهر الفرات، فحاصرها وقتل من فيها. ورغم صغر حجم هذه الموقعة، إلا أنها أحدثت هزّة عنيفة في الفرس، كما رفعت من معنويات الجيش الإسلامي.

من جديد، توجه الجيش الفارسي لمقابلة المثنى بن حارثة، الذي عسكر بجوار الحيرة، ووجه إليه الفاروق مدداً من الجنود. استفاد المثنى من الأخطاء السابقة، ومن خبراته مع خالد بن الوليد، فقرر أن يختار هو مكان المعركة، وتوجه بجيشه إلى منطقة تُسمَّى البُوَيْب، وأرسل رسائل إلى أمراء القوات الإسلامية القادمة من المدينة، بأن يتوجهوا إلى هناك، وكان المكان الذي اختاره في غرب نهر الفرات، فهذا النهر يفصل بين الجيش الإسلامي والجيش الفارسي القادم من المدائن، وجاء المدد الإسلامي، وانضم إلى جيش المثنى، وأصبح قوام الجيش ثمانية آلاف، والجيش الفارسي ما بين الستين والسبعين ألفاً على الضفة الأخرى لنهر الفرات.

أرسل الجيش الفارسي رسالة إلى المثنى: إما أن تعبروا إلينا أو نعبر إليكم. فأجاب المثنى بأن يعبروا هم إلى المسلمين. كان المثنى قد نظم جيشه جيداً، وكان هو في المقدمة، وجعل فرقة من الجيش في المؤخرة لا تشترك في القتال، حتى تحمي ظهر المسلمين من أي التفاف ربما يحدث من الجيش الفارسي حول الجيش الإسلامي.

تكرر مشهد معركة الجسر، ولكن بعكس الأدوار، فعندما عبر الفرس نهر الفرات، كان الجيش الإسلامي يحاصر المنطقة بكاملها، فدخلت القوات الفارسية في المنطقة الضيقة، وبذلك افتقدوا عنصر الكثرة، لأن المساحة التي تركها المسلمون للفرس ضيقة، ويقف جيشهم بكامله صفوفاً بعضهم خلف بعض، ويقابل صفهم الأول فقط صف المسلمين الأول، ولا يستطيع أحد الدخول في المعركة في الصف الأول من كلا الجيشين، فأصبح لا قيمة لعدد جيش الفرس عندئذ، وهذا ما كان خطط له المثنى بن حارثة. وبذلك انتصر المسلمون وقتلوا مهران بن باذان قائد الفرس، إضافة إلى خمسين ألفاً من الجنود. لقد اتضح في معركة البويب جلياً، أن التخطيط السليم والإدارة السليمة للمعركة، لهما دور مهم في النصر، مقترناً بعقيدة راسخة وإيمان ثابت.

كفاءة القائد

جاء في موقع قصة الإسلام: لقد أثبت المثنى أنه قائد عسكري على درجة عالية من الكفاءة، فقد اختار أرض المعركة، وكانت محصورة بين الفرات والبويب، وهي تصلح لنصب الكمائن للعدو، ثم وضع الخطط المناسبة لهذه الأرض، بحيث يتسنى للقوات القليلة العدد أن تكون فاعلة، وتفقد الأكثرية العددية فاعليتها.

Email