«فتح أنطاكية».. عبقرية بيبرس

ت + ت - الحجم الطبيعي

حدثُ هذا اليوم سطرته أسطورة من أساطير الأبطال، الذين تغنت بسيرتهم حتى أقاصيص قبل النوم التي ترويها الجدات لأحفادهن، وتزينت بعبق بطولاته مقاهي دمشق والقاهرة على ألسنة »الحكواتيين«، إنه الملك الذي أبدع في السلم إبداعه في الحرب، فأنشأ اتحاداً بين اثنين من أعظم أقاليم الإسلام هما الشام ومصر، قامة لا نظير لها في الحكم والسياسة، لم تأته السلطة على طبق من ذهب، بل تسلم زمام الحكم والمسلمون في أشد محنهم وضعفهم، فبلغ بهم أعلى ذرى المجد والتمكين، وتغلب على أعظم عملاقين عاثا في بلاد الإسلام فساداً هما المغول والصليبيون، وأبى إلا أن يسطر اسمه في صفحات التاريخ المشرقة.

تمكن الملك الظاهر ركن الدين بيبرس في مثل هذا اليوم من شهر رمضان من عام 666هـ من الانتصار على الفرنجة في أنطاكية بعد بسط سيطرته على الدولة المملوكية في مصر.

فتحت أنطاكية في عهد الخلافة الراشدة أيام عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، فكانت من المدن التي دخلها نور الإسلام وحضارته باكراً، وبقيت تتفيأ ظلال الحكم الإسلامي حتى سقطت سنة 491 للهجرة في أيدي الصليبيين، وكان الصليبيون راغبين في دخولها لبالغ أهميتها، وذلك بحكم موقعها وكونها صلة وصل بين الشام وبلاد الروم، عدا عن أهميتها الدينية عندهم.

أزال الصليبيون كل الآثار الإسلامية التي فيها، حتى إنهم حولوا مساجدها إلى كنائس، وكان حاكمها الصليبي أشد الحكام أذى للمسلمين، حيث وجدوا منه من الأذى ما لم يجدوه من قبل، واهتموا بتحصينها غاية الاهتمام، حتى بنوا عليها سوراً طوله اثنا عشر ميلاً، وعلى هذا السور ما يقارب مئة وستة وثلاثين برجاً، وفي هذه الأبراج أربعة وعشرون ألف شرفة، فغدت من أعظم المدن في ذلك الحين منعة وتحصناً.

توحيد وتخطيط ففتح

بقيت أنطاكية مستعمرة من الصليبيين نحو مئة وسبعين سنة، وكان الله تعالى قد هيأ لها رجلاً من أعظم القادة، هو الظاهر بيبرس، الذي تجهز لاستعادة ما سلبه الصليبيون من بلاد المسلمين، ومهد الطريق للتوجه إلى أنطاكية بأن فتح كل المدن التي في طريقه إليها، فعمل على عزلها عما جاورها من المدن وقطع عنها الإمدادات.

خرج ركن الدين بجيشه من مصر إلى فلسطين، وكانت المعاهدة مع الحاكم الصليبي في يافا قد انتهت، ولم تجدد، وظن الصليبيون أنه أمير كغيره من الأمراء الذين يتنازلون عن كل شيء في سبيل مصالحهم الشخصية، لم يعلموا أنهم أمام عبقري من عباقرة التاريخ وقامة من القامات العسكرية التي قل لها نظير. ففتح يافا، وتلتها طرابلس، ثم توجه إلى أنطاكية.

وصل ركن الدين بجيوشه إليها في مستهل رمضان 666 هـ، وهناك قسم جيوشه إلى ثلاث فرق وزعها حول المدينة ليحكم حصارها ويمنع وصول المدد إليها من البر والبحر. ولم يستطع الصليبيون المقاومة، بسبب شدة الحصار وقوة المهاجمين، ففتحت المدينة وتمكنت جيوش بيبرس من دخولها.

جاء في كتاب (الوطن العربي والغزو الصليبي: 224): »وقد كان سقوط تلك الإمارة الصليبية حدثاً مهماً في تاريخ الحروب الصليبية، فقد انقطعت صلة الصليبيين في طرابلس وعكا بأرمينية الصغرى، وبذلك غدت مصالح الصليبيين في الشام مهددة بشكل مباشر، ولم يبق أمامهم سوى مملكة قبرص الصليبية.

وفي كتاب »حياة الملك الظاهر بيبرس« لمحمود شلبي ص250: »وفي يوم السبت رابع رمضان المعظم زحفت العساكر، وأطافت بالمدينة والقلعة، وقاتل أهلها قتالاً شديداً ذريعاً، وجاهدهم المسلمون جهاداً عظيماً.. واجتمع نحو القلعة منهم نحو ثمانية آلاف منهم، وكان بها مئة ألف أو يزيدون«.

عادت أنطاكية إلى أيدي المسلمين بعد أن سيطر عليها الصليبيون مئة وسبعين عاماً، وكان ذلك أعظم نصر حققه المسلمون على الصليبيين بعد معركة حطين، حيث أصبح لهم رهبة شديدة في قلوب أعدائهم.

قائد ألمعي

 

كان الظاهر بيبرس حقاً قائداً ألمعياً لم تلد بطون الأيام مثله، وهو كما قال علي الطنطاوي في كتابه (رجال من التاريخ) ص71: »أخذ البلاد وهي أوصال مقطعة، تحكمها حكومات فاسدة شريرة، ويعيث العدو فيها، ويملك أطرافها، وتركها وهي حكومة واحدة قوية، تشمل سوريا ومصر والنوبة والحجاز وأطراف العراق، وكان يطمع في أكثر من ذلك، في أن يعيد توحيد البلاد الإسلامية كلها«.

Email