شذرات

الأطلال.. صور بديعة سكنت قلوب الشعراء

ت + ت - الحجم الطبيعي

حين يحاول أيٌّ منا تعليل انجذابه إلى شخص تربطه به مودَّة قديمة، تُعْيِيه اللغة بما اشتملته من أساليب واضحة وتراكيب معبِّرة، وتقف الألفاظ حجر عثرة في طريق تعبيره عن أحاسيسه المتداخلة؛ ذلك أن العلاقات الإنسانية بين أفراد البشر بأنواعها تتسم بالعمق الذي يبلغ درجة من التعقيد، فإذا كانت العلاقة هذه بتفاصيلها المتشعبة تربط الإنسان بالجماد، فما عساه يقول معللاً لها؟!

انعكست حياة العرب، التي كانت منذ بداياتها سلسلة متصلة من الحل والترحال، على أدبهم الذي جاء صورة تامة لظروف بيئتهم وطرائق معيشتهم، فبدا في سطوره أثر أسفارهم ومكابدتهم المشاقّ والصعوبات وهم يقطعون الصحارى، كما ارتسمت في صفحاته ملامح إجلالهم للديار التي سكنوها فحفلت بأيام رخائهم ومرابع لهوهم وأفراحهم، ثم رحلوا عنها لتسكنها ذكرياتهم ويبقى حنينهم إليها معششاً بين جوانح صدورهم.

ولمَّا كانت الشواهد الشعرية التي احتفت بتلك الفكرة لا تتسع لها الكتب والمجلدات، انصبَّ غرضنا في هذه العجالة على تسليط الضوء على زاوية مختلفة من زوايا تناول هذا الموضوع الأدبي الشائق، نرى من خلالها منازع شعرائنا العرب ومشاربهم المختلفة في وصف الدار بالفخامة والأناقة، على نحو يدل على عِظَم قدْر صاحبها الذي بناها، وأكثر ما يكون مثل هذا في ثنايا قصائد المدح، كما هو واقع في قصيدة شاعرنا أبي الوليد يونس القسطلي، ومدح بها الوزير خالد بن حسون، واصفاً بناءه لمنزل راقٍ، ومفضِّلاً إياه على إيوان كسرى، ويبدو أن هذا البناء كان مرتفعاً إلى الدرجة التي سمحت للشاعر أن يتخيله وكأن النجوم قد اتخذت مداراً على جنباته:

بنيتَ بدارةِ القمرين دارا

                     فدعْ غُمْدانَ أو إيوانَ دارا

بِطَودٍ مُشْرِفِ الجنباتِ عالٍ

                    كأنَّ على النجومِ لهُ مدارا

وقد غرسَتْ أياديكَ المعالي

                    حفافَيْهِ وأعْبُدُكَ الثِّمارا

ولا تنحصر رؤية الشاعر التصويرية في تفاصيل هذا الصرح وروعة بنائه، بل يتسع مجال الوصف الشعري المتكئ على رصانة اللغة وعذوبة الإيقاع، لترسم لنا ريشة الشاعر المبدعة ما بدا من مظاهر الطبيعة الخلابة المحيطة بالمكان الذي اختاره الممدوح لتشييد داره:

وفوقَ الدَّوحةِ الغنَّا غديرٌ

                  تلأْلأَ صفحةً وصفا قرارا

إذا ما انصبَّ أزرقَ مستقيماً

                  تدوَّمَ في البحيرةِ واستدارا

يُجرِّدُهُ فمُ الأنبوبِ صلتاً

                   حساماً ثُمَّ يُفلتُهُ سوارا

وربما كان سحر هذا المنظر الفتَّان، أو انعكاس جمالياته على هذا النص الشعري البديع، أو كلا الأمرين معاً، دافعاً محفزاً وملهماً لشاعر آخر هو أبو بحر صفوان التجيبي، إذ حملته فتنة التجربة الشعرية على أن يعارض هذه الأبيات بأخرى، ضمن قصيدة له نظمها في مدح أحمد بن خالد بن حسون، حين جمعته صحبته به في المكان ذاته، لكنه بقي أسيراً لأفكار القصيدة السابقة، فأخذ يكرر المعاني نفسها في حلية جديدة:

ومُذْ خيَّمْتُ بالخضراءِ دارا

                   وزنْتُ بشِسْعِ نَعْلي تاجَ دارا

توهَّمْتُ السماءَ بها محلِّي

                   لأني للنجومِ أقمْتُ جارا

وما قالوا لها الخضراءَ إلَّا

                   لأنْ كانتْ لِأنجُمِهم مدارا

ومنزلُنا بأزرقَ كوثريٍّ

                  بمنزلِ أزرقٍ ما إنْ يُجارى

وَطوْدٍ لو تُزاحمُ منكباهُ

                نظامَ النجمِ لانتشرَ انتشارا

انفتحت الثقافة العربية على أشكال أدبية متنوعة، مثَّلت مساحات حرَّة للتعبير الإبداعي، ومع ذلك، ظل الشعر ديوان العرب وفنَّهم الأول، الذي حفظ لغتهم وخلَّد أخبارهم وبصمتهم الثقافية المميزة، فكان ولا يزال مسرحاً يُظهرون فيه قدراتهم البلاغية المتفاوتة، وبراعاتهم التصويرية المدهشة. وفي هذا الشهر المبارك، تصطحب «البيان» قارئها إلى عوالم نصوص شعرية، خاصة، ترتسم فيها روعة البلاغة لنحلق معها في فضاء البيان الأدبي.

Email