مشهد جريان الزورق في النهر

إيقاعات شعرية عزفت على وتر الجمال

ت + ت - الحجم الطبيعي

انفتحت الثقافة العربية على أشكال أدبية متنوعة، مثَّلت مساحات حرَّة للتعبير الإبداعي، ومع ذلك، ظل الشعر ديوان العرب وفنَّهم الأول، الذي حفظ لغتهم وخلَّد أخبارهم وبصمتهم الثقافية المميزة، فكان ولا يزال مسرحاً يُظهرون فيه قدراتهم البلاغية المتفاوتة، وبراعاتهم التصويرية المدهشة. وفي هذا الشهر المبارك، تصطحب «البيان» قارئها إلى عوالم نصوص شعرية، خاصة، ترتسم فيها روعة البلاغة لنحلق معها في فضاء البيان الأدبي.

كانت الطبيعة، وما زالت، دالَّةً على قدرة الخالق ووحدانيته، كاسية على النفس الطمأنينة والسعادة، بجمال يملأ على الناس حياتهم، وإبداع يدفع الإنسان إلى التأمل في روعة المخلوقات المختلفة، ويجلو إحساسه بمظاهرها الفاتنة، فانعكس ذلك في صناعاته فناً بديعاً يلائم قدرته البشرية المحدودة أمام قدرة الله تعالى المطلقة، ومع تعدُّد صناعات البشر تغيَّرت ملامح الحياة، وبدا للإنسان أن يرسم مشاهدها المتنوعة، معبراً عن إقراره بكمال صُنع الله وجلال عظمته، ومصوِّراً ما صنعته أيدي البشر.

وقد امتلك شعراؤنا العرب بصيرة نافذة قادرة على التقاط صور الحياة والغوص في تفاصيلها البديعة، التي كانت شاهداً على ما حباهم الله تعالى به من عبقرية فذَّة أعانتهم على التعمُّق في الأشياء من حولهم، وتكوين خيالات ساحرة في تلاؤمها، ثم نقلها إلى الناس من خلال نصوص شعرية ناطقة بما في وجدان كل شاعر منهم. مشهدٌ عابر يمر أمام عيون الكثيرين، يستثمره الشاعر العربي ويُعيد تصوُّره برؤى مختلفة، ليصنع منه لوحة بليغة من وحي ألفاظه المسبوكة النظم، واستعاراته النادرة الاتفاق، وإيقاعاته المنسجمة النغم، فإذا هي صورة حيَّة متحركة تبصرها النفوس، وتكاد تتلمَّسها الأيدي.

إلا أن ثمة مَشاهد بعينها ربما لفتت أنظار كثير من الشعراء الذين عايشوا الطبيعة في بلاد عُرفت بروعتها الخلابة، فنجدها تتكرر في قصائدهم على نحو من التنافس في بلوغ أقصى درجات الشاعرية، كان مشهد جريان الزورق في النهر من أبرزها ظهوراً فيما خلَّدته دواوين التراث الأدبي، وربما كان اللافت فيه تشكُّله من صورتين، صورة الطبيعة الربانية (النهر)، وصورة الصنعة البشرية (الزورق)، وهو الأمر الذي يبدو جليّاً فيما أنتجته الحضارة الإسلامية في الأندلس من فنون شعرية، انعكست في مرآتها الصقيلة حياة الشعراء هناك، حيث الطبيعة الساحرة ومظاهر التقدم الإنساني آنذاك.

قطعة شعرية عالية الجودة من إبداع ابن صارة الأندلسي، استقرت عندها أنظار كثير من الدارسين فتوقفوا عندها مليّاً، هي النموذج المختار في هذه السطور التي نحاول فيها استجلاء الروعة البيانية الساطعة في شعرنا العربي، حيث يصف الشاعر الزورق وهو في النهر قبيل الغروب، ويشبِّهه بفتاة عذراء لفرادته في الصنعة والجمال من جهة، ومن جهة أخرى بالمرأة الحبلى لامتلائه بمن ركب فيه من القوم، ولا يقنع بخيالاته تلك، بل يمعن في التشخيص حين يستعير لهذه المرأة ذوائب من الشعر تداعبها الرياح اللينة السريعة، كما يشبِّه ماء النهر في عذوبته وصفائه بماء الكوثر، كل ذلك في صياغة رشيقة، وألفاظ منتقاة، وقوافٍ سلسة، تتلاءم جميعاً لتصنع نصاً حَسَن النسج، تلتذ الأسماع بتكرار وقعه المتناغم:

تأمَّلْ حالَنا والجوُّ طَلْقٌ

محيَّاهُ وقد طَفِلَ المساءُ

وقد جالتْ بنا عذراءُ حُبْلى

تُجاذِبُ مِرْطَها ريحٌ رُخاءُ

بنهرٍ كالسَّجنجلِ كوثريٍّ

تُعبِّسُ وجهَها فيه السماءُ

هذا المنظر البهي الموحي لم يكن لِيُلْهِمَ شاعرنا ابن صارة ويضنّ على أقرانه من الشعراء، فنجد ابن خفاجة الأندلسي يستلهم منه خيالات أخرى، يضاهي بها صنيع صاحبه حيناً، ويتناصّ معه في صوره التي أغرته بالمجاراة حيناً آخر، إلا أن صورة الزورق هنا ترتسم في مخيلة ابن خفاجة فرساً أدهم، ولعلنا ننصف كلا الشاعرين إذا رأينا أن ابن صارة قصد الغرابة والتعمق في الوصف، في حين جنح ابن خفاجة إلى السلاسة والسهولة الممتنعة:

ألا يا حبَّذا ضَحِكُ الحُمَيَّا

بحانتِها وقد عبسَ المساءُ

وأدهمُ مِنْ جيادِ الماءِ نهدٌ

تُنازعُ جُلَّهُ ريحٌ رُخاءُ

إذا بدتِ الكواكبُ فيه غرقى

رأيتَ الأرضَ تحسُدُها السماءُ

Email