ذكريات الماضي الجميل.. صور عانقـت الخيـال وحنت إليها القلوب

ت + ت - الحجم الطبيعي

انفتحت الثقافة العربية على أشكال أدبية متنوعة، مثَّلت مساحات حرَّة للتعبير الإبداعي، ومع ذلك، ظل الشعر ديوان العرب وفنَّهم الأول، الذي حفظ لغتهم وخلَّد أخبارهم وبصمتهم الثقافية المميزة، فكان ولا يزال مسرحاً يُظهرون فيه قدراتهم البلاغية المتفاوتة، وبراعاتهم التصويرية المدهشة. وفي هذا الشهر المبارك، تصطحب «البيان» قارئها إلى عوالم نصوص شعرية، خاصة، ترتسم فيها روعة البلاغة لنحلق معها في فضاء البيان الأدبي.

يمضي إيقاع الزمن في حياتنا سريعاً خاطفاً، فلا نكاد نُحسُّ به إلا وقد حمَلَنا من عالم إلى آخر، ونحدِّق في ذواتنا فنجدنا أشخاصاً غيرنا، هكذا كنا بالأمس، وكذلك نحن اليوم، وإذا بنا قد اختلفنا عمَّا كنَّا، وغرقنا في زحام الواقع الحافل بانشغالاتنا المتشابكة، وانفصم ما بيننا وبين الماضي من عُرى ووشائج، ولكنْ ثمة شيء يربطنا بما سلف، خيط رفيع نسمِّيه الذكرى.

امتلك الشاعر العربي القديم حسّاً مرهفاً وذاكرة تتسع لتفاصيل الحياة وتقلباتها، وكان الشعر بالنسبة إليه متنفَّساً يبث من خلاله ذكرياته وحنينه إلى ماضيه، وليس من شك أن قضية التذكُّر، كما جمعت عموم البشر، وحَّدت شعراءنا العرب بغض النظر عن تنوُّع منازعهم واختلاف توجُّهاتهم، دليل ذلك أننا لا نظفر بشاعر مشهور من أعلام الشعر العربي القديم إلا ونلقاه قد مسَّته عدوى الذكريات، وأرَّقته بهمومها وأعبائها، وصبغت جانباً من شعره، كثيراً كان أو قليلاً، بملامحها الممتلئة بالشجن والرِّقة والاشتياق، حتى كأن الاحتفاء بالماضي وأيامه الخوالي غدا في شعرنا العربي عادةً متَّبعة لا تفارق الشعراء من لَدُنْ امرئ القيس، الذي اشتُهر بأنه أول من وقف على الأطلال وبكى واستبكى، وإن كان شعره شاهداً على قِدَم ظاهرة التذكُّر والبكاء على الماضي، وأنها عادة راسخة في أدبيات العرب من قبله، كما في بيته الذي يقول فيه:

عُوجا على الطللِ المُحيلِ لعلَّنا

نبكي الدِّيارَ كما بكى ابنُ حِذامِ

قال ابن سلَّام الجمحي في «طبقات فحول الشعراء»: «وهو رجل من طيِّئ، لم نسمع شعره الذي بكى فيه».

ولكنَّ ما يعنينا هنا أن نضع أيدينا على شيء من تفنُّن الشعراء في معالجة موضوع الذكرى، والمداخل المبتكرة لديهم في تناوله شعريّاً، لا سيما في النصوص التي لم تنلْ من الشهرة ما تستحق، مثال ذلك قصيدة بعنوان «في مطلع الخامسة والعشرين» للدكتور إحسان عباس، ضمَّها ديوانه «أزهار برية»، يقف فيها الشاعر على عتبة الحاضر الذي آل إليه، متلفتاً خلفه، ومتأملاً ماضيه الذي يناشده الرجوع بلا جدوى:

أهذا أنا؟ ماذا حدا بي إلى هنا

أجئتُ اتفاقاً أمْ أتتْ بي رغائبي

وكيفَ اجتوى قلبي عهود طفولتي

وأدبر عنها؟ تلكَ أمُّ العجائبِ

تلفَّتُّ للماضي أريدُ رجوعَهُ

لأني كرهتُ السيرَ بينَ الغياهبِ

وقلتُ لقلبي: قفْ تزوَّدْ بنظرةٍ

فإني مع الأيامِ لستُ بذاهبِ

أأتركُ ريعانَ الشبابِ وأرتضي

بقيةَ عُمرٍ للأسى والمصائبِ

وأصرعُ أيامي على غيرِ طائلٍ

كفاني فقد خابتْ وضلَّتْ تجاربي

ونلمح في هذه الأبيات الأولى من النص محاولة بائسة للتشبُّث بالماضي، يصرُّ فيها الشاعر على رفض الواقع الذي يحياه، مقدِّماً خلال نص بديع بلغ تسعة وعشرين بيتاً، كل الحُجَج غير المنطقية التي لا تُسعفُه في إثناء الزمن عن جريانه، ولا تمنع سُنَّة الحياة من أن تسلك مسارها الرباني المحتوم.

ماتَ الفتى المازنيُّ، ثمَّ أتى

مِنْ مازنٍ غيرُهُ على الأثَرِ

Email