فلسـفة الشعر تســتنهض الحيـاة من رتـابتها

ت + ت - الحجم الطبيعي

انفتحت الثقافة العربية على أشكال أدبية متنوعة، مثَّلت مساحات حرَّة للتعبير الإبداعي، ومع ذلك، ظل الشعر ديوان العرب وفنَّهم الأول، الذي حفظ لغتهم وخلَّد أخبارهم وبصمتهم الثقافية المميزة، فكان ولا يزال مسرحاً يُظهرون فيه قدراتهم البلاغية المتفاوتة، وبراعاتهم التصويرية المدهشة. وفي هذا الشهر المبارك، تصطحب «البيان» قارئها إلى عوالم نصوص شعرية، خاصة، ترتسم فيها روعة البلاغة لنحلق معها في فضاء البيان الأدبي.

تنقسم مشاهد حياتنا اليومية إلى أحداث مهمة وأخرى اعتيادية؛ الأولى تمثل محطات رئيسة في سيرتنا، والثانية ليست إلا مواقف عابرة ومكررة، ولا تعني أي شيء بالنسبة إلى أكثرنا، غير أن الأمر لا يبدو لكل الناس على هذا النحو، إذ تختلف الرؤى تجاه تلك الصور المتحركة التي تتوالى من حولنا، كلٌّ حسب طريقة تفكيره فيها، ووفق درجة حساسيته وعمق تفاعله معها.

لا يختلف اثنان في أن من وظائف الشعر، كغيره من الآداب والفنون، تسجيل مواقف الحياة وتصويرها بأسلوب إبداعي، لكنَّ هذا الاتفاق لا ينفي مدى الاتساع بين ثبات هذه النظرية وتطبيقاتها المتباينة، فمن المستحيل الإجماع على نوعية الأحداث الحياتية التي ينبغي للشاعر التقاطها وتناولها شعرياً دون غيرها، ومن هنا ينفتح باب واسع من التجارب الشعرية التي لا حصر لها، والتي تتكشَّف من خلالها فلسفات الشعراء وحقيقة مفهوم الشاعرية لدى كل واحد منهم، على أن تصوير الأحداث البارزة في تاريخ أمَّة من الأمم أو شعب من الشعوب قد لا يكون موضع استغراب أيٍّ منا، إلا أن المواقف العابرة والبسيطة، والساذجة أحياناً، تظل رهن الاستهجان إذا ما جرى تعاطيها كموضوع شعري، وهذا الاستهجان ينقلب دهشةً وإعجاباً حين ينجح شاعر ما في تحويل البساطة إلى موقف شعري بامتياز.

ولا ريب أن هذه السطور السالفة تبقى مجموعة من الأفكار الغريبة والمشوَّشة إذا تُركتْ من دون نماذج شعرية تؤيِّدها، وتصنع منها قضية راسخة ذات قواعد صلبة وبنيان رصين، ولا أجد في هذا المقام ما يدعم ما عرضته وينهي حيرة البحث في التراث الشعري، أفضل مما أبدعته عبقرية شاعرنا العباسي علي بن العباس بن جريج، المشهور بابن الرومي، فقد اتسمت عقلية هذا الرجل بقدرات خاصة، جعلته يفوق أقرانه في إبداع المعاني الشعرية، ولا سيما في الشعر الوصفي، حتى طرق موضوعات جديدة لم يعهدها أحد قبله، استطاع فيها أن يبعث مشاهد الحياة اليومية الميتة والمعتادة، لتدبَّ فيها روح الشاعرية الحيَّة، فهذا موقف من حياته، رأى فيه خبَّازاً يتناول قطعة العجين كرةً، ولا يزال يبسطها حتى تصير رقاقةً مستديرة مسطحة، ولننظر معاً كيف صنع الخبَّاز في عجينته بمهارة حرفته، وكيف صنع ابن الرومي في هذا المشهد العابر بروعة شاعريته:

ما أنسَ لا أنسَ خبَّازاً مررتُ بهِ

يدحو الرُّقاقةَ وَشْكَ اللمحِ بالبصرِ

ما بينَ رؤيتِها في كفِّهِ كُرةً

وبينَ رؤيتِها قوراءَ كالقمرِ

إلَّا بِمقدارِ ما تنداحُ دائرةٌ

في صفحةِ الماءِ يُرمى فيهِ بالحجَرِ

ولعل هذا الاتجاه الذي سلكه ابن الرومي ومعه جمع غفير من شعرائنا الأفذاذ، هو ما أغرى بعض شعراء العصر الحديث بأن يحوِّلوا نصوصهم إلى مشاهد يومية تنضح بالشاعرية، وساعدهم على ذلك ظهور قصيدة التفعيلة، التي فتحت أمامهم المجال رحباً، بمرونة نظامها العَروضي، ليرسموا ما شاؤوا من يومياتهم التي كان التعبير عنها حكراً على النثر دون الشعر، كما هو جليٌّ في هذه اللوحة التي أبدعها الشاعر المصري صلاح عبد الصبور، بلغة رشيقة وأسلوب حديث:

يا صاحبي، إني حزينْ

طلعَ الصباحُ، فماابتسمتُ، ولمْ يُنِرْ وجهي الصباحْ

وخرجتُ مِنْ جوفِ المدينةِ أطلبُ الرزقَ المتاحْ

وغمستُ في ماءِ القناعةِ خبزَ أيامي الكَفافْ

ورجعتُ بعدَ الظهرِ في جيبي قروشْ

فشربتُ شاياً في الطريقْ

ورتقتُ نعلي

ولعبتُ بالنردِ الموزَّعِ بينَ كفِّي والصديقْ

Email