شذرات

هيبة وسكون يثيران شجون العاشقين

ت + ت - الحجم الطبيعي

انفتحت الثقافة العربية على أشكال أدبية متنوعة، مثَّلت مساحات حرَّة للتعبير الإبداعي، ومع ذلك، ظل الشعر ديوان العرب وفنَّهم الأول، الذي حفظ لغتهم وخلَّد أخبارهم وبصمتهم الثقافية المميزة.

فكان ولا يزال مسرحاً يُظهرون فيه قدراتهم البلاغية المتفاوتة، وبراعاتهم التصويرية المدهشة. وفي هذا الشهر المبارك، تصطحب «البيان» قارئها إلى عوالم نصوص شعرية، خاصة، ترتسم فيها روعة البلاغة لنحلق معها في فضاء البيان الأدبي.

تبدو ظواهر الطبيعة في عيون المبصرين من البشر بصور متشابهة، وتستقبلها عقولهم على نحو واحد من الإدراك، وإن اختلفت مذاهبهم الفكرية، فإن إحساسهم بما حولهم لا يكاد يتعدد، كلُّهم يرى الضياءَ مشرقاً، والظُّلمةَ حالكةً، والسماءَ واسعةً، والجبالَ راسيةً، لكنَّ الاتفاق في الرؤية لا يلبث أن يصبح آراء لا حصر لها، حين يشرع كل إنسان في تأمُّل انطباعاته تجاه الصورة المشتركة.

لقد أصاب إيليا أبو ماضي كل الإصابة عندما وجد في وحدة المشهد الطبيعي في أنظار الناس المختلفين وجهاً من وجوه الاتفاق، ينبني عليه مظهر من مظاهر التساوي بين الخلق، بغض النظر عن تنوعهم في الغنى والفقر وغيرهما من الصفات، فقال في قصيدة بعنوان «الطين»، مخاطباً المتكبرين من البشر:

قمرٌ واحدٌ يُطِلُّ علينا

وعلى الكوخِ والبناءِ الموطَّدْ

إنْ يكنْ مشرقاً لِعينيكَ، إنِّي

لا أراهُ مِنْ كُوَّةِ الكوخِ أسودْ

غير أن هذا المعنى لا ينسحب على مشاعرهم الداخلية الناتجة عن تأثرهم بما شاهدوه، ومن هنا تتلوَّن أساليب الشعراء في تناول الصورة الواحدة بالوصف، كما هي الحال في الليل.

وفي هذه الرحلة السريعة، نحاول تذوُّق رؤيتين شعريتين ذواتَيْ روعة بيانية خلابة، إحداهما من الشعر الجاهلي ضمن معلَّقة امرئ القيس، يتخيَّل فيها الليلَ بهيئةٍ ملؤها التوحش والهول، فهو يُذكِّره بهمومه الطاغية المضطربة.

لذا يشبِّه حركته بتماوج البحر، ليشير إلى تجدُّدها وتوالُد بعضها من بعض، ويُحسّ في طول الليل باستمرار حزنه، مؤكداً ذلك بالصورة التي رسمها للنجوم، وكأنما ثُبِّتتْ في السماء بحبال مفتولة شُدَّت ورُبطت بالجبل:

وليلٍ كموجِ البحرِ أرخى سدولَهُ

عليَّ بأنواعِ الهُمومِ لِيبتلي

فقلتُ لهُ لـمَّا تمطَّى بِصُلبِهِ

وأردفَ أعجازاً وناءَ بِكَلْكَلِ

ألا أيُّها اللَّيلُ الطَّويلُ ألا انجلي

بصُبحٍ وما الإصباحُ فيكَ بأمثَلِ

فيا لَكَ مِنْ ليلٍ كأنَّ نجومَهُ

بِكُلِّ مُغارِ الفَتْلِ شُدَّتْ بِيَذْبُلِ

كأنَّ الثُّريا عُلِّقَتْ في مَصامِها

بأمراسِ كَتَّانٍ إلى صُمِّ جَنْدَلِ

ولا يختلف الشاعر التونسي أبو القاسم الشابي في مِسحة الحزن البادية في شعره عن الليل، ولا في تشخيص الليل ومخاطبته، إلا أن الشابي يرى في الليل عرائسَ أمل، ويسمع أنغام نشيد عذب من الذكريات، حيث تتألق الحياة في أثناء الغيوم، ويصير الليل إيقاعاً مُبهجاً برغم الكآبة التي تخيِّم على جوانب الحياة:

أيُّها اللَّيلُ يا أبا البؤسِ والهَوْ

لِ، يا هيكلَ الحياةِ الرَّهيبِ

فيكَ تجثو عرائسُ الأملِ العذْ

بِ، تُصَلِّي بِصَوْتِهِ المحبوبِ

فيُثيرُ النَّشيدُ ذكرى حياةٍ

حجبَتْها غُيومُ دهرٍ كئيبِ

وترُفُّ الشُّجونُ مِنْ حولِ قلبي

بِسُكونٍ، وهَيْبةٍ، وقُطوبِ

أنتَ يا ليلُ ذرَّةٌ صَعِدَتْ للْـ

ـكونِ مِنْ موطئِ الجحيمِ الغضوبِ

أيُّها اللَّيلُ أنتَ نغْمٌ شجيٌّ

في شفاهِ الدُّهورِ بين النَّحيبِ

الليل..

 

 

 

Email