شذرات

الشــوق إلى الأحبـة حيـن خضّـب قصيـد الأندلسي الرمادي بالدمع

ت + ت - الحجم الطبيعي

انفتحت الثقافة العربية على أشكال أدبية متنوعة، مثَّلت مساحات حرَّة للتعبير الإبداعي، ومع ذلك، ظل الشعر ديوان العرب وفنَّهم الأول، الذي حفظ لغتهم وخلَّد أخبارهم وبصمتهم الثقافية المميزة.

فكان ولا يزال مسرحاً يُظهرون فيه قدراتهم البلاغية المتفاوتة، وبراعاتهم التصويرية المدهشة. وفي هذا الشهر المبارك، تصطحب «البيان» قارئها إلى عوالم نصوص شعرية، خاصة، ترتسم فيها روعة البلاغة لنحلق معها في فضاء البيان الأدبي.

في خضمِّ الحياة المزدحمة بالأحداث والناس، يلتقي الإنسان أشخاصاً يتخذهم رفاقاً في رحلته الطويلة، يبوح إليهم بخلجات نفسه حين ينتابه الفرح، ويفزع إليهم ساعة الأسى، يتحدث إليهم كأنهم ضميره الذي فيه مكمن أسراره، وتتولَّد بينه وبينهم روابط أُلفة تُحكِم عُراها الأيامُ والليالي، فتستحيل بمرورها أقوى من روابط القرابة والدم، فإذا تبدَّلت الأحوال، وقضى الله بالفراق، تجرَّع الإنسان الوفي مرارة الشوق.

لم يكن شعر العرب بِدْعاً بين غيره من أشعار سائر الشعوب ذات اللغات المختلفة والثقافات المتباينة، إذ أفرد لقضية الشوق إلى الأحبة مساحات واسعة، ومنحها قدراً كبيراً من الاهتمام والإجلال، بل ربما فاق شعراؤنا مَن سواهم في تناول تلك الفكرة الإنسانية التي لا يخلو منها مجتمع، حين تفنَّنوا في التعبير عنها، سواء ضمن قصائدهم الجياد أو بتخصيص مقطَّعات شعرية لها.

وطرقوا أبواب التجديد الفني في تصوير ما يلاقيه الشاعر المشتاق إلى أحبابه، من حرارة في صدره لا تنطفئ، وغُصَّة في حلقه لا تنقضي.

وهنا تستوقفنا أبيات جيدة السبك، سلسة المجرى، مُحكمة النظم، مشحونة بالصدق التعبيري الذي أُفرغ في قالب فني بديع يدفع المتلقي إلى الميل إليها بسمعه وفؤاده، وتأمُّل ما فيها من روعة خلَّابة، إذ استطاع بها الشاعر الأندلسي يوسف بن هارون الرمادي أن يلفت مَن ترجموا له وسردوا سيرته.

فقد اعتمد فيها على المبالغة في تصوير حزنه العميق إثر رحيل أحبابه، مستعملاً التشخيص أسلوباً يرتكز عليه في نقل أفكاره ومعانيه، فنراه يخاطب غير المعقولات، كاليوم والدمع والنَّفَس والهمّ والليل، ويتمنى وقوع المستحيلات ليستبقي أصدقاءه ماكثين معه:

غداً يرحلونَ فيا يومُ رِسْلَـــ

ـــكَ! كُنْ بالظلامِ بطيءَ اللِّحَاقِ

ويا دمعَ عينَيَّ سُدَّ الطريقَ

وأفرغْ عليهم نجيعَ المآقِي

ويا نَفَسِي جئهُمُ مِن أمامٍ

وقابلْهُمُ بنسيمِ احتراقِ

ويا همَّ نفسي بهم كُنْ ظلاماً

وقيِّدْهُمُ عن نوى وانطلاقِ

ويا ليلُ مِن بعدِ ذا إنْ ظَفِرْ

تَ بالصبحِ فاقذفْ بهِ في وثاقِ

وبعبقرية شعرية يعزُّ نظيرها، يُمسك شاعر آخر من كبار شعرائنا، هو أمية بن غالب الموروري، بطرف هذه الفكرة، محاولاً الدخول إليها من باب مختلف، فنجده يبتعد عن الغلو في المبالغة حتى لا يخرج بموضوعه عن حدود المعقول والممكن، ليصنع لنا لوحة شعرية أخرى لا تقل جمالاً عن سابقتها، غير أنها تنم عن نفسية شُجاعة متفائلة، تسعى إلى جعل الفراق التئاماً، والنأي اجتماعاً، وترى في الفراق على مشقته نعمةً، فهو يُذكِّر الأحبة بأيام الوصال:

أعَدُّوا غداً لبكورِ الفراقِ

ولم يُعلِموا ذا هوى بانطلاقِ

فنمَّ الرُّغاءُ بإعدادهم

وجمعُ الرِّكابِ دليلُ افتراقِ

أسرُّوا نوى البينِ في ليلِهمْ

فأظهرَهُ الصبحُ قبلَ انْفلاقِ

ويومُ الفراقِ على قُبحِهِ

يُذكِّرُ ذا الشوقِ حُسنَ التلاقي

سأقطعُ عنهم سلوكَ السبيلِ

وأكشفُ للبينِ عن شرِّ ساقي

برعدِ زفيري وبرقِ احتراقي

وليلٍ يداجي غيومَ اشتياقي

 

 

Email