شذرات

الحنين إلى الوطن.. إحساس صاغ أشعار «صقر قريش»

ت + ت - الحجم الطبيعي

انفتحت الثقافة العربية على أشكال أدبية متنوعة، مثَّلت مساحات حرَّة للتعبير الإبداعي، ومع ذلك، ظل الشعر ديوان العرب وفنَّهم الأول، الذي حفظ لغتهم وخلَّد أخبارهم وبصمتهم الثقافية المميزة، فكان ولا يزال مسرحاً يُظهرون فيه قدراتهم البلاغية المتفاوتة، وبراعاتهم التصويرية المدهشة. وفي هذا الشهر المبارك، تصطحب «البيان» قارئها إلى عوالم نصوص شعرية خاصة، ترتسم فيها روعة البلاغة لنحلق معها في فضاء البيان الأدبي.

مساحة من الأرض الواسعة، تشرق عليها الشمس كل صباح، ويُسدل عليها الظلام ستره كل ليل، وتسكنها جموع من البشر، تجمعهم روابط من اللغة والعادات والتقاليد، شأنها كشأن كل البلاد، وربما زارها إنسان ومر بها مرور الكرام، لكنه إذا وُلد فيها أو نشأ، أو قضى أمداً من عمره هناك، حُفرت ذكرياتها في فؤاده، وأصبح لا يذوق طعم الراحة إلا في كنفها.

على الرغم مما اتسمت به حياة العرب منذ بداياتها من دوام الرحيل وعدم الاستقرار في مكان، فإن قضية الوطن لم تكن بمنأى عن تفكيرهم، ولم تخلُ قلوبهم مما حفلت به قلوب غيرهم من الحنين إلى الأوطان، وهو الأمر الذي جعل هذه الفكرة حاضرة بقوة في شعرهم، كغيرها من الأغراض المتداولة من مدح وفخر ونسيب ورثاء وهجاء ووصف، ولذا لا نشكُّ في صحة ما ذهب إليه الدكتور مصطفى أبو شارب، في دراسته «الشعراء المروانيون في الأندلس»، إذ رأى أن غرض الحنين إلى الوطن من الأغراض التي يتساوى فيها الشريف والوضيع والشاعر والمتشاعر؛ لأنه من الأشياء التي رُكِّبتْ في غرائز البشر وجُبلتْ عليها النفوس.

غير أن هذا التساوي لا يعني بأي حال من الأحوال اتفاقَ الشعراء على رؤية واحدة، فقد استطاع كل شاعر أن يصنع عالمه الخاص في تناول هذه القضية الإنسانية. فمثلاً، نجد شاعراً مشرقياً، هو عبد الرحمن الداخل، الملقب بـ«صقر قريش»، عاش في بيئة يكثر فيها النخيل، تضطره الظروف السياسية آنذاك إلى الرحيل إلى الغرب حيث بلاد الأندلس، وهناك ينزل بقصر الرصافة التي بناها على غرار رصافة جده هشام بن عبد الملك، فتعترضه ضمن مشاهد الحياة المتنوعة صورةُ نخلة سامقة، فيتذكَّر أرض آبائه وأجداده، وتنبعث في نفسه ذكريات مسقط رأسه، فيستقي من صورة النخلة مادته الشعرية، عاقداً بينه وبينها علاقات غريبة ومبتكرة، ليرسم لنا لوحة بليغة من مشاعر الحنين والاغتراب:

تبدَّتْ لنا وسْطَ الرُّصافةِ نخلةٌ

تناءتْ بِأرضِ الغربِ عنْ بلدِ النَّخْلِ

فقلتُ: شبيهي في التغرُّبِ والنوى

وطولِ التنائي عن بنيَّ وعن أهلي

نشأتِ بأرضٍ أنتِ فيها غريبةٌ

فمثلُكِ في الإقصاءِ والمنتأى مثلي

سقتْكِ غوادي الْمُزْنِ مِنْ صوبِها الذي

يسُحُّ ويستمري السِّماكينِ بالوَبْلِ

وعلى هذا الغرار، يسير شاعرنا المصري المعاصر أحمد بخيت، لكنه يستوحي رؤيته من عناصر شتى لا عنصر واحد، شكَّلت أحاسيسه الدائمة الاشتياق إلى الوطن بمفهومه الواسع، إذ تتضخَّم الفكرة لديه لتشمل الحنين إلى الماضي، والطفولة البريئة، إلى غير ذلك من التفاصيل الكثيرة والمتعددة، التي لا يجمع شتاتها إلا فكرة الحنين، ليُقرر في مطلع قصيدته «ما يُوجع النون»، أن الوطن ليس مجرد مساحة محددة، بل إنه الذكريات التي تسكننا:

أوطانُنا نحنُ، والدنيا منافينا

هل يسألُ الناسُ عن أوطانِنا فينا؟

هويةٌ، عملةٌ، وسمٌ، وذاكرةٌ

وغربةٌ من عصورٍ في مآقينا

ليلُ الزغاريدِ، طبلُ العُرسِ، كعكتُنا

في صُبحِ عيدٍ بعيدٍ عن أمانينا

جُميزةٌ تحتَ شمسِ العمرِ صابرةٌ

عاشتْ تباركُ أطفالاً ملاعينا

«قُمْ للمعلمِ»، قُمنا ضاحكينَ وما

خِلْنا صدى ضحكةٍ يوماً سيُبكينا

Email