شذرات

السحاب.. مناهل خير أفاضت العفوية في شعر أبي تمام

ت + ت - الحجم الطبيعي

انفتحت الثقافة العربية على أشكال أدبية متنوعة، مثَّلت مساحات حرَّة للتعبير الإبداعي، ومع ذلك، ظل الشعر ديوان العرب وفنَّهم الأول، الذي حفظ لغتهم وخلَّد أخبارهم وبصمتهم الثقافية المميزة، فكان ولا يزال مسرحاً يُظهرون فيه قدراتهم البلاغية المتفاوتة، وبراعاتهم التصويرية المدهشة. وفي هذا الشهر المبارك، تصطحب «البيان» قارئها إلى عوالم نصوص شعرية ترتسم فيها روعة البلاغة لنحلق معها في فضاء البيان الأدبي.

يُفضي التأمل العميق لمجريات أحداث الدنيا إلى اختزالها في أسباب ونتائج، أسباب يقدِّرها الله تبارك وتعالى، فتؤتي نتائج أحاط بها علمه في الأزل، والإنسان المؤمن يقف أمام هذا التناغم العجيب متدبراً الحكمة الربانية في تصريف الأقدار، وكلما تبدَّى له الترابط الوثيق بين السبب والنتيجة، كان احتفاؤه بالسبب أشد وأظهر، من هنا رأى في السحاب سبباً للحياة، وتشوَّفت إليه نفسه كما تطلع إليه بصره.

كان للبيئة الصحراوية التي تتعطش رمالها إلى المطر أثرها الواضح في نفسية شعرائنا العرب الأوائل، فبدت نصوصهم صورة صادقة لما عايشوه من مظاهر حياتية، تعتمد فيها معيشة الناس على انتظار هطول الغيث الذي يبعث الأرض الميتة ويحيي النبت والزرع، فتعود حركة الحياة إلى جريانها، ويعمُّ الخير بعدما أشرفت النفوس على القنوط، ولذا لم يكن من الغرابة أن تومض لنا صورة السحاب في الكثير من جوانب الشعر العربي، ولم يكن مستهجناً خلع أوصاف السحاب على الأشياء المحسوسة، كتشبيه الناقة المسرعة في مشيتها بالسحاب الجهام الذي أراق ماءه فخفَّت حركته، كما في قول لبيد بن ربيعة في معلقته:

فإذا تغالى لحمُها وتحسَّرتْ

وتقطَّعتْ بعدَ الكَلالِ خِدامُها

فَلَها هِبابٌ في الزِّمامِ كأنها

صهباءُ خفَّ مع الجنوبِ جَهامُها

ومع اتساع رقعة البلاد الإسلامية، أشرقت معالم الحضارة والحياة المدنية التي غطت الكثير من مظاهر البداوة الأصيلة شيئاً فشيئاً، لكنَّ شعراءنا العرب ظلوا أوفياء لعناصر الطبيعة التي احتفلوا بها في معالجاتهم الإبداعية، ففي العصر العباسي مثلاً، تطالعنا أبيات أبي تمام:

ساريةٌ لم تكتحلْ بِغَمْضِ

كدراءُ ذاتُ هَطَلانٍ مَحْضِ

مُوقَرَةٌ مِنْ خُلَّةٍ وحَمْضِ

تمضي وتُبقي نِعَماً لا تمضي

قَضَتْ بها السماءُ حقَّ الأرضِ

وأول ما يلفت النظر في هذا النص عفوية التعبير التي تفوح منه، على خلاف ما اتسم به أغلب شعر أبي تمام من التنميق والتزيين، ولعل وزن (مشطور الرجز) الذي كثر استعماله لدى العرب في مثل هذه المواقف، وركوبَ الشاعر قافية الضاد الوعرة، فرضا على الشاعر التخفف من سطوة الزخرفة اللفظية، ليتيح المجال لشاعريته التصويرية أن تشخَّص السحابة في هيئة امرأة، شغلها عن الرقاد سريانها، ودوام انسكاب المطر العذب الذي أثقل عبئها بصنوف النبات من حلو وحامض، لتقضي حق الأرض على السماء. وهذا نص آخر ضمن الحقبة التاريخية ذاتها، يتناول السحابة برؤية تصويرية مختلفة، إذ يسبغ عليها المزيد من الصفات البشرية التفصيلية، ويسمع متذوق الشعر في أركان هذا البناء الشعري الفخم، صوت انقداح الصبح، وجلجلة الرعد التي تستدعي صوت احتكاك الرحى، ما يرفعه فوق نص أبي تمام سالف الذكر:

وساريةٍ لا تملُّ البُكا

جرى دمعُها في خدودِ الثرى

سَرَتْ تقدحُ الصُّبحَ في ليلِها

بِبَارقِ هنديَّةٍ تُنْتضى

فلمَّا دَنَتْ جلْجَلَتْ في السَّما

ءِ رَعداً أجشَّ كجرِّ الرَّحى

فما زالَ مدمعُها باكياً

على التُّربِ حتى اكتسى ما اكتسى

فأضحَتْ سواءً وجوهُ البلادِ

وجُنَّ النَّباتُ بها والتقى

Email