شذرات

البادية.. مهوى فؤاد المتنبي ومقر راحته وتأملاته

ت + ت - الحجم الطبيعي

انفتحت الثقافة العربية على أشكال أدبية متنوعة، مثَّلت مساحات حرَّة للتعبير الإبداعي، ومع ذلك، ظل الشعر ديوان العرب وفنَّهم الأول، الذي حفظ لغتهم وخلَّد أخبارهم وبصمتهم الثقافية المميزة، فكان ولا يزال مسرحاً يُظهرون فيه قدراتهم البلاغية المتفاوتة، وبراعاتهم التصويرية المدهشة. وفي هذا الشهر المبارك، تصطحب «البيان» قارئها إلى عوالم نصوص شعرية، خاصة، ترتسم فيها روعة البلاغة لنحلق معها في فضاء البيان الأدبي.

يظن الإنسان أن البيئة التي يعيش فيها هي مجرد مكان يحتويه هو وقومه، ويتسع لمسكنه ومراتع طلبه للرزق، لكنه حين يتأمَّل ما أنتجه عقله من الأفكار، وما أبدعته يداه من الصناعات، يجد أثر بيئته ظاهراً يكاد ينطق فيها، ليدرك أن البيئة عالَم متشعب من العناصر المحسوسة، يسكن وجدانه، ويضرب بجذوره في عمق ضميره، ويكوِّن الصور والمشاهد التي ينسجها خياله الحر.

نجح المسلمون العرب القدماء خلال تاريخهم المشرِّف في تشييد حضارة عظيمة، ظلَّت آثارها شاهدةً على قيمة ما قدَّموه للإنسانية جمعاء، وقد امتدَّت دولتهم حتى وسعت بلاداً شتى في آسيا وإفريقيا وأوروبا، واتسمت مظاهر مجدهم بالتحضر ومواكبة كل عصر عاشوا فيه.

وعلى الرغم من كل ذلك، بقيت أمارات انتمائهم الشعوري ووفائهم الفكري ظاهرة بجلاء في كثير مما أنتجوه من آداب وعلوم، تشي بما سكن في أعماقهم واستقرَّ في قرارة نفوسهم من الأصالة والتمسُّك بالعادات العربية القديمة، وعدم التنكُّر لها أو التنصُّل من الاعتزاز بها، لذا لم يكن من الغرابة في شيء ما بدا في علم العَروض العربي مثلاً، من انعكاس هذه المظاهر في صنيع الخليل بن أحمد الفراهيدي، مؤسس هذا العلم الشريف، إذ وضع مصطلحاته من بيئته البدوية الخالصة، فقاس البيت من الشِّعر بالبيت من الشَّعر، أي الخيمة التي تتكون من صدر البيت، وهو للضيف والرجال، وعَجُزه، وهو للنساء، يفصل بينهما عَروض، وهي الخشبة التي تُقيم الخيمة، وتُربط بالسبب (الحبل)، ويُدقُّ لتثبيتها الوتد.

وفي شعرنا العربي القديم، اتضحت كذلك الملامح البدوية العريقة ولكن بصورة فنية، يتمثل فيها الشعراء حنينهم إلى تلك البيئة الأولى، وشغفهم بنمط الحياة البدوي، فأخذوا جميعاً يجسِّدون هذا العشق الكامن في صدورهم، ويبثونه شعراً صادقاً، فشكَّل اتجاهاً أدبياً عُرف لدى بعض الباحثين بـ«الهيام البدوي»، واتَّخذ مستويات عدة في التعبير، واستدعته مواقف نفسية وتجارب شعورية متنوعة، كان منها ما وقع لأبي الطيب المتنبي حين رحل عن حلب متوجهاً إلى مصر، بعد خلاف نشب بينه وبين سيف الدولة، حيث واجهته في طريقه بعض هذه الملامح البدوية، فرأى فيها ما يلائم حالته المزاجية، ورغبته في الرحيل عن الحياة الحضرية التي اعتراها شيء من الجفاف، وتفضيله الطبيعة الصادقة على أصحاب الأمس الذين أفسد الحسَّاد وُدَّهم له، فوقف يتغنى بالجمال الذي بهره، وينطق بسرّ أشجان قلبه:

مَنِ الجآذرُ في زيِّ الأعاريبِ

حُمْرُ الحُلى والمطايا والجلابيبِ

إنْ كنتَ تسألُ شكّاً في معارفِها

فمَنْ بلاكَ بتسهيدٍ وتعذيبِ

سوائرٌ ربَّما سارتْ هوادجُها

منيعةً بينَ مطعونٍ ومضروبِ

وربَّما وخدَتْ أيدي المطيِّ بها

على نجيعٍ مِنَ الفُرسانِ مصبوبِ

كم زورةٍ لك في الأعرابِ خافيةٍ

أدهى، وقد رقدوا، مِنْ زَورةِ الذِّيبِ

أزورُهم وسوادُ الليلِ يشفعُ لي

وأنثني وبياضُ الصُّبحِ يُغري بي

ما أوجُهُ الحَضَرِ المستحسناتُ بهِ

كأوجُهِ البدويَّاتِ الرَّعابيبِ

حُسنُ الحضارةِ مجلوبٌ بتطريةٍ

وفي البداوةِ حُسنٌ غيرُ مجلوبِ

Email