يجول رشيد مشهراوي في مخيم اليرموك من خلال عيون شاب أراد أن تصل مأساة مخيم لاجئي (اليرموك) إلى العالم

(رسائل من اليرموك): وصلت لكن أحداً لم يتحرك!

صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

كثيرة هي الصور المأساوية التي نقلت عن مخيم اليرموك الذي لا يزال محاصراً. لكن بعضاً من الصور كانت تقول العكس. الفرقة الموسيقية التي تعزف رفقة الخراب في المخيم تؤكد على إصرار الحياة. بعض مقاطع الموسيقى التي انتشرت كالنار في هشيم مواقع التواصل الاجتماعي لها حكاية يرويها (رسائل من اليرموك)، لكن كيف لهذه الموسيقى أن تصدح وسط الجوع والمأساة والبرد؟ من أين للإنسان هذه الطاقة على الشعور بالجمال والحب كما بطل الفيلم نيراز ومخرجه المنفذ؟ أسئلة كثيرة تصارع الروح عن حقيقة حدوث مأساة الجوع في العصر الحديث؟ من المسؤول؟ لا يقين في هذا الفيلم.

الكثير من الأسئلة يطرحها رشيد مشهراوي على أبطاله، ورفيق فيلمه نيراز الذي يدين له مخيم (اليرموك) بالصور الفوتوغرافية ومقاطع الفيديو التي تشاهدها. إلا أنه يطرحها معه، ومعك عندما تشاهد ما يحدث، والأنكى أن الحدث مستمر في الحدوث. ألم الفيلم الوثائقي يرافقك في كل المراحل. في مرحلة المشاهدة، والتفكير، والحوار، والاستماع للحوار وتفريغه، وتحريره، وقراءته منشوراً، لكنه بالتأكيد لا يصل إلى ألم من يعيش المأساة، فـ (من يعد العصي ليس كمن يتلقاها). المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي رافق فيلمه الذي عرض أخيراً في مهرجان دبي السينمائي 2014، حيث التقته (أرى) وكان هذا الحوار.

كثيرون أخذوا على الفيلم أنك لم تكن منحازاً لطرف من الأطراف، هل كان الأمر مقصوداً؟
طبعاً، كلنا نمتلك من الوعي ما يكفي لمحاولة تلمس ما يحدث، منذ بداية الأشياء (أنا أسميها أشياء لأني لا أعرف إن كانت حرباً أم ثورة) أركّز في الفيلم على الإنسان الذي يعيش داخل المخيم وكيف يقضي حياته ضمن حرب هو عملياً ليس طرفاً فيها. أنا همي الناس التي تموت كل يوم من الجوع والقصف والمرض، وخصوصاً الأطفال. وفي الوقت نفسه أحببت أن يطرح الفيلم أسئلة، من قبيل من المسؤول؟ إذ لربما يقول أحدهم: النظام السوري، فيما آخر ويقول: المعارضة، وثالث يزعم أن الفلسطينيين هم السبب لأنهم منقسمون. أيضاً الفلسطينيون مع وضد وفيهم كافة الأطياف، لكن أنا كسينمائي هذا ليس موضوعي. أنا أريد القول: الآن في مكان ما هناك بشر مثلنا يعيشون هكذا.

ألم تخش أن يسألك أحدهم عن صلتك كفلسطيني بما يحدث وكونك طرفاً في هذا الفيلم، خصوصاً أن كلا الطرفين يمتلكان ما يكفي من اليقين لنفي معرفة أي آخر بما يحدث على الأرض السورية؟
لا. أنا طرف. أولاً كإنسان يمشي على الأرض، وأعتبر أن الصمت على هكذا خيانة، وأنا طرف كإنسان كما سبق لي وكنت طرفاً عندما صنعت فيلماً عن الأطفال في بغداد بعد الحرب، أو عن عمالة الأطفال في مصر، أو عن حياة الأطفال في المغرب، كفلسطيني أنا طرف، وكلنا نتشارك مع بعض في هذا الكون. طبعاً هذا كلام كبير، ولو وددت أن أتحدث بمنطق آخر كنت لأقول أنا فلسطيني وهؤلاء فلسطينيون، وأنا لاجئ. ولدت في مخيم لاجئين في غزة، وأعرف معنى القصف واللجوء والبرد والجوع، ومعنى انتظار وصول المساعدات من الأونروا، وأعرف أن هنالك نقصاً في الغذاء، وأعرف أن الناس لا تفكر في الغد إنما تكتفي بالتفكير بنصف ساعة لاحقة. أحلام الناس تتدمر أمام عيونها.

كيف التقيت نيراز سعيد ولميس، أو بالأحرى كيف بدأت حكاية الفيلم؟
في الواقع القصة انطلقت من لميس التي بادرتني باتصال وأخبرتني عن شاب في مخيم اليرموك يصور صوراً فوتوغرافية وفيديو، ومحاصر، ولا يعرف كيف يمكن له أن يقدم شيئاً لهؤلاء الناس، وأخبرتني أنه يحاول أن يُسمعَ صوت هؤلاء الناس واستغاثتهم، وأنا بدوري انحزت له ولهم وأردت أن أوصل صوت الناس واستغاثتهم.

هل هذا استمرارية للفعل المقاوم الذي يعيشه الفلسطيني حتى ضمن مخيم اللجوء ولو لم يكن حاملاً لبندقية، والذي تحرص على تقديمه في السينما؟
هذه وسائل طبعاً لتمنحك استمراريةً وبقاءً وأملاً وتجعلك تتواصل مع العالم بلغة يفهمها، لكن الأشياء التي تحدث للفلسطينيين في كل مكان من العالم، ليست خياراً إنما فرضت وعليه التعامل معها، لكن اليرموك وضعه مختلف. أنت موجود هناك كلاجئ فلسطيني، ومطلوب منك النزوح ثانيةً، وفي الواقع بعض الناس لا مكان لديها لتخرج إليه سوى الشوارع والمدارس. الفلسطيني اللاجئ في اليرموك ليس بمقدوره أن يشبه اللاجئ السوري في أوروبا أو الدول الاسكندنافية لأن عليه أولاً أن يكون سورياً!. وعملياً أنت لاجئ وعليك أن تكون مرة أخرى لاجئاً، لكن لا يوجد مكان يستقبلك. هذا أمر صعب.

مؤلمٌ المقطع الذي استخدمته من شعر محمود درويش (تركنا فيكِ شهداءنا الذين نوصيك بهم خيراً)، والمفارقة أن طلب التوصية لا يمكن تنفيذه مع الأحياء فكيف بالشهداء!. حتى عندما خرجت بنا الكاميرا إلى قرية عولم التي أبادها (الاسرائيلي) لم تشأ أن تخبر نيراز سعيد أنها غير موجودة بعد حتى لا تقتل في داخله حلم العودة.
هناك حالة بخصوصية عالية، هناك نوع من العبث. هناك معطيات تجمعت من الصعب أن تفرز حالة مشابهة في الإنسانية. أنت وسط حالة من اللافهم. أنت لا تعلم هل أنت نظام أم ثورة أم أنك فقط تريد العيش. هناك ناس في اليرموك فقط تحلم أن تعيش.

هل تغليف الفيلم بالحيرة هو محاولة للهروب من (يقين) ما؟ فأنت طيلة الوقت تسأل وتقول أنا لا أعرف ماذا سأفعل ويستمر فعل الحيرة طيلة الفيلم، فهل الحيرة من عدم وجود واقع، ما الحيرة التي تتحدث عنها؟
الحيرة هنا نوعان. الأولى اجتماعية إنسانية سياسية وأنا كإنسان لا حلّ لدي. ولا أستطيع أن أقول لأي أحد انتظر ستفرج غداً. أما سينمائياً فإذا أردت صناعة فيلم عن مخيم اليرموك في وضعه الحالي، فالموضوع صعب لأني أنا أيضاً لا أفهم ماذا يحدث هناك، فكل يوم هناك تطورات وتغيرات. ولو تحدثنا عن بنية الفيلم والتطور الدرامي في هذا السياق، ونوعية الشخصيات وتطورها وكيفية تفكيرك بالفيلم من قبل، فالموضوع صعب لأني لا أعرف، وبعض شخوص فيلمي تموت. أنا خرجت من الفيلم كما دخلته. بالتالي أنا لا حكاية لدي لأحكيها، لذا اكتفيت بإثارة الموضوع، لأوصل صوت هؤلاء الناس عبر السينما من خلال كوني مخرجاً.

هل قمتم بتنسيق معرض (صور من اليرموك) خلال الفيلم أم كان منفصلاً عن سياق الفيلم؟
لا كان جزءاً من الفيلم والحيرة. كنت أسأل نفسي ماذا سأفعل؟ فاهتديت إلى الفكرة التي وددت من خلالها أن أقوم بشيء ولو بسيطاً، فكانت فكرة معرض صور نيراز سعيد التي عرضت في متحف محمود درويش، وحصد المعرض إقبالاً لافتاً، ودعيت أبرز المعنيين بالثقافة وأطلقنا المعرض وتواصلنا بشكل مباشر مع المخيم، لكن عندما غادرت كان إحساسي بالشيء الملموس غير موجود. أي أن شعور العجز لا يزال مسيطراً علي. ربما لو صنعت فيلماً فلربما صنعته لنفسي، لأني أريد أن أقول ما عندي.


ما أبرز الصعوبات التي واجهتك أثناء تصوير الفيلم وكم استغرق تصويره تقريباً؟
التصوير استمر حوالي 8 شهور، لكن بالطبع ليس بشكل يومي لأن الموضوع رهن بالوضع في اليرموك وتوفر الكهرباء، وإمكانية المقابلات عبر سكايب، وصعوبات التنقل. الزمن كان طويلاً في الفيلم. أما الصعوبات فكانت نفسية في جزئها الأكبر لأني سرعان ما توغلت في الفيلم وصرت جزءاً من الحكاية دون قرار، وأثناء تصويرنا صارت الحرب على غزة وأنا في رام الله، صار كل مكان مستهدفاً. أهلي في غزة وأنا أنجز فيلماً عن اليرموك، والناس تخرج مظاهرات تضامنية مع غزة وهم محاصرون في اليرموك. ومن في اليرموك يسألونني عن غزة.

استشهد شقيق نيراز خلال الفيلم، وهنا أحسست بالعجز ماذا سأقول له؟ ماذا سيقول هو؟ حاولت قدر الإمكان أن أكون صادقاً وأميناً للحالة ولهؤلاء الأشخاص الذين صنعت برفقتهم الفيلم، أو صنعوا لي الفيلم أو صنعت لهم الفيلم، في الحقيقة لا أعرف. لكنه بالنهاية ليس فيلماً هو قضية.

أنا أصنع الأفلام منذ أكثر من 30 سنة، وحصدت الجوائز في كل المهرجانات العالمية من برلين إلى كان إلى تورنتو، والسينما كانت ولا تزال تعلمني أشياء، لكن أهم ما عملتني إياه السينما أن الإنسان أهم من الفيلم، والإنسان أهم من المهرجان، وإن لم يكن أهم فلماذا الأفلام؟ ولماذا السينما؟

Email