عدنان الراوي.. الثمن الغالي للنضال

عدنان الراوي.. الثمن الغالي للنضال

ت + ت - الحجم الطبيعي

أغلب المفكرين والأدباء الذين يتسمون بصفة »بلا حدود«، لم يكتسبوا هذه الصفة زينة أو اختياراً أو هواية للترحال، وإنما اكتسبوها مضطرين، ولأنها كانت السبيل الوحيد للنجاة من الاضطهاد والملاحقة والاغتيال والإعدام أحياناً. وتتجلى هذه الحقيقة أو الظاهرة في حياة كثيرين من الرواد المناضلين والأدباء بلا حدود، في بلادنا العربية، ومن الأمثلة البارزة منهم الشاعر والأديب بلا حدود: عدنان الراوي.

اسم »عدنان الراوي« يعرفه الأدباء ومؤرخو الأدب، اسم شاعر عراقي مرموق وموهوب، وقف شعره على قضايا النضال القومي في وطنه العراق، وفي الوطن العربي كله. ويعرفه تاريخ الحركة الوطنية والقومية، مناضلاً جسوراً بين صفوف المناضلين في الأربعينات والخمسينات وما قدر له من الستينات، ودفع راضياً الثمن الغالي للنضال، سجناً واعتقالاً ونفياً.

كذلك يعرفه الإعلام العربي في فترة المد القومي، صوتاً قوياً جريئاً طالماً دوى على أثير »صوت العرب« مندداً بالانحراف والعمالة واستبداد السلطة في العراق، وحادياً لنضال شعبه والشعوب العربية، ومنشداً مبدعاً للوحدة ولإنجازات حركة المد القومي في كل مكان من المحيط إلى الخليج.

لكنه ـــ منذ رحيله وهو في أوج شبابه وعطائه في الحادية والأربعين ـــ انزوى في الظل، ضمن من انزووا تحت غبار الأحداث الكبرى التي أطاحت بالأخضر واليابس من منجزات النضال القومي. لكنه يظل رمزاً شريفاً وملهماً للمناضل الوطني والشاعر القومي والأديب بلا حدود.

في عام 1926، في مدينة الموصل أم الربيعين والحدباء، بشمال العراق، بدأت رحلة حياة عدنان الراوي، في ظل أسرة متوسطة الحال، وأب يعمل بالزراعة والتجارة، يحلم أن يدرس ابنه في الأزهر الشريف ليكون قاضياً أو واعظاً مرموقاً. لكن الابن عدنان، بعد أن أتم دراسته الثانوية بالموصل، التحق بكلية الحقوق في بغداد، حيث تخرج عام 1948.

تفتح وعي عدنان على أصداء ذكريات القهر والاستبداد وضنك الحياة تحت نير السيطرة التركية، ثم على واقع الاحتلال البريطاني، المخفي وراء واجهات من العملاء وضعاف النفوس والانتهازيين، الذين راحوا يحكمون بالعسف والطغيان ونهب مقدرات الوطن.

كذلك تفتح وعيه على صدى أحداث النضال في أقطار الوطن العربي، ثم كارثة اغتصاب فلسطين. وقاده وعيه، وثقافته من اطلاعه الواسع، ووجدانه العربي الصافي الضارب بجذوره في أرض الموصل العربية الأصيلة، إلى موقعه الذي لم يغيره طوال حياته، بين صفوف المناضلين، من أجل تحرير الوطن.

ومن أجل حياة أفضل كريمة مصونة بالعدل، ومن أجل وحدة عربية تلم شتات الأمة، وتحقق لها القوة والمتعة، والتقدم والرخاء. وفي عام 1954 أصدر عدنان الراوي جريدة العمل، منبراً لآرائه ومتابعة الأحداث الوطنية والقومية، والدفاع عن كرامة الوطن وحقوق الشعب. ولكن سرعان ما سحبت السلطة امتيازها منه.

وهكذا صار عدنان من رموز الحركة الوطنية، فكان في المحاكم المحامي المخلص للمظلومين، وضحايا الحكم الجائر في السجون والمعتقلات. وأدى اشتراكه الملحوظ في التظاهرات الوطنية، ومقالاته وأشعاره الثائرة إلى إدخاله السجن والمعتقل، وتعريضه لألوان من التعذيب كادت تودي بحياته.

وعندما اشتعلت المقاومة الوطنية ضد مؤامرات حلف بغداد، وازداد بطش السلطة، تمكن عدنان من النجاة، بالخروج في خفية من بغداد، وعبور الحدود إلى سوريا، ومنها إلى القاهرة، ملاذ الأحرار، وحصن الثوار المناضلين، ومنطلق التيار القومي، وصوت العرب أيام المد القومي المجيدة.

وصل الشاعر والأديب بلا حدود إلى القاهرة عام 1954، وانطلق صوته من »صوت العرب«، وفي المحافل الوطنية. وكان رد نوري السعيد في العراق إسقاط الجنسية العراقية عنه، فكان رد عدنان قصيدته الشهيرة التي صارت منشوراً وطنياً ذاع صيته في كل الأقطار العربية:

سأقول ضاع

الدفتر المسكين

ذو الورق الجميل، ذو الورق الجميل

اسمي واسم أبي وأمي والعراق

ومباهج الميلاد، والعمر الطويل

وضفائر النخل القديمة والرفاق

وخطاي حول الشاطئين بلا وداع

ومفارش الأزهار والجسد الهزيل

أشياء تافهة لدى نوري السعيد

ويريد نوري أن أقول، أقول: ضاع

وفي القاهرة يجد عدنان الراوي نفسه في خضم تفاعلات حركة النضال العربي، فيعلو نشيده لأحداث وطنه وكل الأقطار العربية: فلسطين والجزائر، ولبنان وسوريا. وعندما تتعرض مصر وبورسعيد للعدوان الثلاثي يصرخ الشاعر:

لن يرجعوا

الأرض ملت وطأهم والمربع

والشاطئان، وبحرنا المتوجع

أبدا، وإن شح الخصيب الممرع

لن يرجعوا

وعندما يتحقق حلم الوحدة الرائدة بين مصر وسوريا، يشدو الشاعر الأديب بلا حدود، ويصلي مبتهلا:

يا طول ما نادت ضفاف العراق

مراكب الشمس بسفح الهرم

يا طول ما نادت نواصي القمم

في منتهى الارزات في لبنان

نسائم الصحراء في عمان

وطال عهد الفراق..

يا مرسل الغيمة عبر الجبل

ترقص من تل إلى فوق تل

خذها.. صلاة شاعر:

لنلتق..

واليوم يوم الإخوة الضائعين

ولتلتق الجباه والشفاه

ولتلتق الحياة والحياة

ولتلتق القلوب

وليلتق الشرق بأقصى العروب

كما التقى الشمال والجنوب

بالوحدة بلغ المد القومي أوجه، وتفجرت الثورة في العراق في 14 يوليو 1958. فعاد عدنان الراوي إلى وطنه، ولكن سرعان ما انقلب عبدالكريم قاسم على زملائه في قيادة الثوري. ودخل العراق في نفق دام رهيب، واعتقل عدنان ضمن آلاف الشباب القومي، وامتد اعتقاله سبعة أشهر في سجن أبو غريب، شهد العراق خلالها أحداثاً دامية في الموصل، وكركوك، وغيرهما، وفقد فيها عدنان شقيقه الوحيد المقدم سعد الله.

وحين يخرج من المعتقل، تلاحقه السلطة، فيعود للارتحال إلى سوريا ومنها إلى القاهرة. وفي القاهرة ـــ في عام 1960 ـــ يتوج علاقته بمصر، بالزواج من ابنة النيل »أزهار«، التي منحته فلذتي كبده: »سعدون وخلدون«.

وهكذا كان عدنان الراوي طائراً بلا حدود، وفي عشيه: بغداد والقاهرة أدى الدور الذي اتخذه رسالة لحياته، وكتب وأبدع بحوثاً وأشعارا، كانت إضافة قيمة للمكتبة القومية والأدبية العربية:

في النثر، قدم: نريد أن نتحرر (1953)، الانحراف القومي في العراق (1958)، من القاهرة إلى معتقل قاسم (1963)، محكمة المهداوي مأساة وملهاة (1960).

وفي الشعر أبدع: هذا الوطن (1947)، من العراق (1949)، النشيد الأحمر (1951)، أيام النضال (1961)، النفط الملتهب (1963)، المشانق والسلام (1963)، الأوذية العربية (1968).

في عام 1966 تفاقم في جسمه النحيل الضعيف المرض الفتاك، فيدخل مستشفى القوات المسلحة بالمعادي حيث يلقى عناية فائقة، لكن الرحلة كانت قد آذنت بانتهاء، فأسلم روحه في ليلة السابع والعشرين من مارس 1967.

وفي ميدان التحرير بقلب القاهرة، احتشد جمهور كبير من أبناء مصر والأقطار العربية، يتصدرهم زملاؤه في صوت العرب، لتوديع المناضل والشاعر والأديب بلا حدود عدنان الراوي، الذي نقل بالطائرة، حيث واراه ثرى وطنه، إلى جوار شقيقه الشهيد سعد الله في مسجد الشهيد الذي بناه والده، تزفه كلماته الخالدة:

شق عنك الكفن

ثم نح الصخور

أنت فوق الزمن

حفنة من زهور

لا تقل لي لمن

سأبيع العطور

كنت أنت الثمن

لانتفاض البلاد

فزرعناك في التراب وسرنا

خلف ذاك النداء ما تتمنى

لست تلقى إذا أردت دموعاً

غير جرح في الأرض أنبت غصناً

من بقايا الجهاد

لانتصار الوطن

عبدالوهاب قتاية

Email