محمد الكحلاوي.. مداح النبي

محمد الكحلاوي.. مداح النبي

  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

بلا منافس يظل الكحلاوي رمزاً للفنان الصوفي، الذي عرف هدفه فأصر على الوصول إليه، وإن كان قد تخبط في البداية ومعاناته لم تقصه عن هدفه، حيث فقده لأبيه وأمه في سن صغيرة، وانتقاله إلى بيئة مختلفة عن تلك التي ولد وعاش بعض طفولته فيها، ثم هروب إلى بلاد لا يعرف أحد فيها.

وهو لا يزال صبياً صغيرا، ليعود كالشعلة المتقدة فيمثل ويلحن ويغني وتصبح ألحانه حديثاً لكل الملتقيات الفنية، وفي ليلة يشعر بحب صوفي للرسول ـ صلي الله عليه وسلم ـ فيتجه إلى الغناء الديني، وهنا تبدأ رحلته مع حياة الصوفية، فيهب حياته كلها لحمد الله تعالى ومدح نبيه الكريم ليكون بحق «مداح النبي».نشأ محمد مرسي عبداللطيف المولود في أكتوبر 1912م بمركز «منيا القمح» التابع لمحافظة «الشرقية» في بيئة إسلامية خالصة، وعاشر الحزن والمرارة في بداية حياته، حيث شب ليجد نفسه يتيما، وأمه توفيت أثناء الولادة والأب أبى أن يعيش بعيدا عنها فلحق بها، ليستقر به المطاف إلى كنف خاله الفنان محمد مجاهد الكحلاوي، وكان عمره آنذاك ثلاث سنوات، الذي انتقل به إلى حي باب الشعرية الشعبي العريق، الذي كان له أثر كبير في شخصيته، وفي اسمه أيضا حيث اكتسب منه لقبه الكحلاوي.

نبتة صالحة كان خاله شديد الحرص على تربيته وتعليمه، ليجعل منه نبتة صالحة ناجحة في الحياة، ولذلك أصر على أن يلحقه بالمدرسة، ليتعلم ويبدأ طريقا يلتمس فيه نجاحا، وكانت البداية بمدرسة فرنسية للراهبات تعلم ودرس بها قرابة خمس سنوات، وفي الوقت ذاته كان يحفظ القرآن في جامع سيدي الشعراني، ولما لم تعجبه الدراسة بالمدرسة الفرنسية، ألحقه خاله بالتعليم الديني الأزهري. فأظهر تألقا ساعده عليه حفظه للقرآن كاملا حفظا وتلاوة في السادسة من عمره، واستمر في التعليم الأزهري، لكنه لم يحصل على شهادة العالمية الأزهرية، وكان لدراسته الدينية أبلغ الأثر في إتقانه للغة العربية وتصحيح مخارج ألفاظه، واستيعابه للنصوص العربية والشعر العربي، ومكنه بعد ذلك من إلقاء الشعر والقصائد والمدائح النبوية.

كما عرف عن الكحلاوي منذ صغره تعدد مواهبه وعظم قدراته فبجانب تفوقه في الجانب التعليمي وقدرته العالية على الحفظ والمذاكرة، كان الفتى يحرص على قضاء وقته بين الغناء ولعب كرة القدم، التي أحبها وتميز فيها، مما دفع المحيطين به على مد يد العون له ومساعدته للاشتراك في نادي السكة الحديد واللعب في فريق النادي الأول، ليصبح فيما بعد كابتن فريق نادي السكة الحديد، ولأنه كان طموحا لم يكن يكتفي باللعب في نادي السكة الحديد بل كان يداوم على ملازمة كل من نادي الزمالك ونادي الترسانة ، اللذين هما أكبر وأعرق نوادي مصر في هذه الأثناء في كل سفرياتهم وجولاتهم الرياضية.

حرص الكحلاوي منذ صغره على الغناء، بل عرف في بداية عهده مطرب حي باب الشعرية، حيث كان يحيي كل حفلات السمر، التي تعقد وتقام في هذا الحي بلا منافس، ولم يكتف بإحيائه لحفلات الحي، الذي يعيش فيه بل كان يحرص على الذهاب سيرا على الأقدام وأصدقاء حيه كل خميس إلى حديقة الأزبكية الشهيرة، التي كانت في هذه الأيام بمثابة ملتقى للفرق المسرحية والموسيقية العريقة، مثل فرقة الشيخ سلامة حجازي وفرقة الست منيرة المهدية وعكاشة.

وكانوا يختلسون النظر من خلف الكواليس وأحيانا كانوا يشاركون في بعض الأعمال ككومبارس صامت، إلى أن لعبت الصدفة لعبتها عندما تأخر مطرب الفرقة زكي عكاشة في ذلك الوقت، فطلب منظم الحفلة من الكحلاوي وأصدقائه بأن يقوم أحدهم بالغناء حتى لا يمل الجمهور، فأجمعوا كلهم على الكحلاوي.

صدفة!

هكذا كانت المرة الأولي صدفة، حيث غني إحدى أغنيات خاله ليتلقي الجمهور الأغنية بتجاوب شديد لدرجة أن الكحلاوي أحس بالفزع الشديد، وفر هاربا بعيدا عن الجمهور، الذي شجعه بشدة مخيفة، فاختاره صاحب الفرقة للعمل كمطرب ضمن صفوف العاملين بالفرقة.

وبمجرد أن انتظم في الغناء بالفرقة، جاءت للفرقة فرصة للسفر إلى بلاد الشام وعرض عليه صاحب الفرقة إلى أن يسافر معهم إلى بلاد الشام، وفي هذه الأثناء، وكان لا يزال طفلا لا يتعدى عمره الثانية عشرة، ورغم ذلك وافق على السفر مع الفرقة دون استئذان خاله، واستمر لثماني سنوات في بلاد الشام.

وتنقل فيها بين بلادها ليتعلم الغناء العربي الأصيل، ويتقن خلالها اللهجة البدوية وإيقاعاتها وغناء الموال.

عاد الكحلاوي إلى مصر عام 1932، وبمجرد عودته عكف على تصوير إسكيتشا بدويا وهو «أفراح البادية»، مستفيدا باللهجة التي أتقنها، وكان يعرض هذا الإسكيتش في استراحات السينمات محدودة العدد في هذا الوقت؛ هكذا استطاع أن يمتلك ميزة لا يملكها غيره من مطربي جيله.

وهي ميزة القدرة على الغناء البدوي، لذلك وجد أن هذا الاتجاه ربما يجعله مميزا فريدا، فتوجه الفنان الشاب إلى الغناء البدوي، فكون ثلاثية جميلة مع بيرم التونسي بالكتابة وزكريا أحمد بالتلحين، ثم خاض تجربة التمثيل في أفلام عديدة منها، «أولاد لامة» و«أحكام العرب» و«يوم في العالي» و«أسير العيون» و«بنت البادية».

غناء ديني وبعد عشر سنوات من عمله للسينما المصرية، بدأت مرحلة جديدة في حياة الكحلاوي باتجاهه إلى الغناء الديني في وقت لم تكن تعرف الأغنية الدينية بمفهومها الحالي، وكانت تقتصر على التواشيح الدينية، ولكنه استطاع أن يضع لهذا الشكل الغنائي أسس وقواعد محددة، لتصبح الأغنية الدينية فيما بعد تغنى بنوتة موسيقية وفرقة كاملة، تلون في غنائه بين الإنشاد والغناء والسير والملاحم والأوبريتات.

وتمثل هذه المرحلة قرابة نصف إنتاجه الفني، فقد لحن أكثر من 600 لحن ديني من مجمل إنتاجه الذي قارب 1200 لحن، ومن أعظم هذه الألحان «سيرة سيدنا محمد» ـ صلى الله عليه وسلم ـ و«سيرة السيد المسيح»، و«قصة حياة سيدنا إبراهيم الخليل»، ولذلك كله لمع الكحلاوي في هذا الشكل الغنائي، ولاقت أغانيه حفاوة عند جمهوره، وأصبحت تذاع في كل المناسبات الدينية وخاصة أغنيته المعروفة في كل بقاع البلدان الإسلامية «لأجل النبي».

لقد كان حلم الكحلاوي في هذا المجال أكبر من الاعتناء بالأغنية الدينية، بل كان يحلم كثيرا بإنشاء مسرح إسلامي، وتكوين فرقة للإنشاد الديني على مسرح البالون المصري، لكنه للأسف لم يستطع تحقيق هذا الحلم الذي يعمل الآن ابنه الفنان أحمد الكحلاوي على تحقيقه، فقد عاش الغناء الديني أكثر من غنائه له.

فقد كان معروفا عنه أنه لم يكن مجرد مغن أو منشد ديني، بل كان يعيش الغناء ويحسه كالمتصوف الهائم في حب الله تعالى ورسوله الكريم وأوليائه البررة، ذلك ما جعله يدخل بمرحلة الغناء الديني مرحلة الورع والزهد في حياته، بعد أن ندم على الوقت الذي قضاه بعيدا عن الله وبعيدا عن حب رسوله الكريم ـ صلى الله عليه وسلم ـ.

هكذا عكف الكحلاوي على الغناء الديني عازما على عدم تركه حتى النهاية، نظرا لحبه الكبير لها، ربما لأنها أعادته إلى الله ورسوله الكريم وفيها أحس بحلاوة الإيمان، ومنذ هذا الوقت لوحظ غلبة حالة من الصوفية الجارفة عليه، وبدأ حرصه الشديد على أداء فريضة الحج سنويا بدون انقطاع، وبالفعل تكرر حجه لـ«40» مرة بشكل متواصل، ولم يقطع الحج طيلة أربعين عاما متواصلة، وكان يحرص على الاعتكاف في منطقة «جبل القصير» على البحر الأحمر ظنا منه أن القطب الصوفي الكبير «أبا الحسن الشاذلي» يحرص على الحضور لهذا المكان لقراءة القرآن معه، قبل العودة مرة أخرى لمقامه القريب من هذا المكان.

كما كان للفنان الصوفي تجلياته النابعة عن إلهام صوفي ونزعة تغلبه في التقرب إلى الله تعالى وأوليائه الصالحين، كهجرة لعمارته الفخمة المطلة على النيل بحي «الزمالك» الراقي، ليستقر في منطقة مدافن الإمام الشافعي التي بني لنفسه بها مسجدا يحمل اسمه يجاور مدفنه.

تعبد وإنشاد

كان مسجدا صغيرا في حجمه بسيطا في تصميمه وإنشائه وليس به تكلف في العمارة ولا في النقوش، وأبرز ما فيه آية الإخلاص التي كتبت بطريقة فنية جميلة، وفي مواجهة باب الجامع يوجد باب آخر يوصل إلى الاستراحة وعلى يمينه يستقر مدفنه في هذا المكان الذي ارتبط به في حياته.

وكان معروفا عنه اعتكافه أسبوعا أو ما يزيد ليقرأ القرآن ويصوم، وليخرج متشبعا بروح الإيمان وبلحن جديد، فالفن كان بالنسبة له دعوة للحض على الفضيلة من خلال الكلمة المغناة، ومن ثم رفض التغني لأي مخلوق إلا لسيد الخلق أجمعين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.

يذكر أن الكحلاوي لم يغن طيلة حياته لملك ولا رئيس مثلما فعل كل المطربين، وتروي عنه واقعة رفضه الغناء للزعيم جمال عبدالناصر رغم طلبه شخصيا، وكان رده نصا كما تذكره العديد من المصادر «لن أمدح أحدا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم».

Email