عادات وتقاليد

«البوقالة» تحفة سهرات رمضان في مدينة الجزائر

ت + ت - الحجم الطبيعي

تنفرد مدينة الجزائر بلعبة شعبية ذات أبعاد ثقافية واجتماعية تمارسها النساء خاصة في سهرات رمضان الكريم. اللعبة الشعبية هذه تسمى «البوقالة» ولم يتمكن المؤرخون حتى الآن من تحديد نشأتها ولا معنى اسمها ولا من نظم الأشعار التي تتلى فيها وتحفظها مئات من نساء العاصمة عن ظهر قلب وتتوارثها الأجيال. ولكنهم يجمعون أن اللعبة قديمة جدا وأنها نتاج تراكم التجارب الثقافية التي تميز مدينة الجزائر عن سواها من مدن البلاد.

تبدأ لعبة «البوقالة» بعد الإفطار حين يخرج الرجال إما إلى المساجد لأداء صلاة التراويح أو إلى المقاهي حيث تنتشر ألعاب «النرد» و «الشطرنج» و «الورق» والدومينو وغير ذلك حتى الفجر. تجلس النساء والفتيات من مختلف الأعمار، وقد تزينن بأبهى ما لديهن من لباس وحلل، في حلقات أو صفوف في فناء البيت ويحضرن الشاي المعطر بالنعناع والقرنفل و أنواع الحلويات وفي مقدمتها «الزلابية» و«قلب اللوز» و «البقلاوة» تأتي بها الساهرات ليتناولنها جماعيا.

وتبدأ البوقالة بالتعويذة والبسملة والصلاة على الرسول الكريم سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم. وتطلب «العارفة» وهي عادة المرأة التي تعرف أكبر عدد من الأشعار و الألغاز الهدوء ودخول طقوس اللعبة بالخشوع والنية الصادقة. ثم تبدأ تلاوة كلام رقيق مقفى في شكل أبيات شعرية بالعامية الجزائرية المهذبة يدور موضوعها عادة حول الحب العفيف والأمل في عودة الحبيب الغائب أو الحزن على فراق الأحبة والأثر الذي يحدثه في النفوس أوالأمل في إيجاد فارس الأحلام والإمعان في أوصافه وما إلى ذلك من الموضوعات الاجتماعية التي يروق للنساء الحديث فيها.

وحين تسترسل «العارفة» في تلاوة الألغاز وأبيات الشعر تشرع النساء في «العقد» وهو أن تنوي كل واحدة بأن البيت الآتي يعنيها أو يعني شخصا تفكر فيه في تلك اللحظة قد يكون الزوج أو الأب أو الأخ وقد يكون صديقا أو عدوا. والنية تتجسد حين تضع المرأة عقدة في تنورتها أو قميصها أو ستار البيت أو في أي قطعة قماش أمامها وتتلفظ بعبارة «عقدت» ما يعني أنها ركزت تفكيرها على شخص محدد تسقط عليه الكلام الذي ستسمعه، عندها تقول «العارفة» البيت الشعري أو اللغز.

ثم تفتح العقدة ويسري «الفأل» إن كان خيرا أو شرا. وصاحبة «العقد» حرة في أن تكشف للحضور الشخص الذي عقدت عليه أو تتركه سرا لها. وتعقد النساء عادة للخير إن كان الأمر يتعلق بالأحباب كالزوج والأهل وعلى الشر إن كان ذلك يخص عدوا وغالبا ما يكون امرأة خطفت حبيبا أو خطيبا أو ضرة خطفت زوجا.

ويتكرر ما حدث مع باقي النساء والفتيات المرشحات للمشاركة في «البوقالة» ومنهن من يبكين من شدة الصدمة في حال جاء تفسير ما عقدت عليه في غير ما تريد. وفي اليوم الموالي يجري الحديث عن فلانة أفرحتها البوقالة وأخرى أحزنتها. ونالت منها. وتبقى البوقالة منذ قرون اللعبة الأكثر شعبية وتأثيرا في نساء العاصمة الجزائرية، وهي أكثر وسائل التسلية حضورا في رمضان.

وكان من أهم من بحثوا في أصول اللعبة وتفاصيلها المؤرخ قدور محمصاجي وهو من عائلة عريقة متأصلة في مدينة الجزائر أصدر كتابا عام 1989 باللغة الفرنسية تحت عنوان « البوقالة: مساهمة في معرفة هذه التسلية التربوية الشعبية» وأكد في الكتاب أن اللعبة بعيدة كل البعد عن شبهات الشعوذة و«قراءة الخاطر» وهي لعبة تربوية تمارسها نساء ماكثات بالبيت بغرض التسلية والترفيه وتحمل في الوقت نفسه معان ثقافية وتجري في طقوس يغلب عليها طابع التركيز على الذات. ونشط محمصاجي ندوات في الموضوع و عددا كبيرا من الحصص الإذاعية حتى انه كان يقدم اللعبة على المباشر في رمضان.

وتعطي الصحف الجزائرية مكانة للبوقالة على صفحاتها خلال شهر رمضان ودأبت على نشر نصوص منها منذ الاستقلال. وتشير بعض الروايات إلى أن اللوحة المشهورة للتشكيلي الفرنسي أوجين دولاكروا(1798 ـ 1863) التي أبدع فيها في العام 1834 بعنوان « نساء الجزائر في مخدعهن» وأعاد صياغتها بتفاصيل أكثر دقه عام 1849 استنبطها من حضوره جلسة «بوقالة» في إحدى ليالي رمضان بحي القصبة العتيق في العاصمة الجزائري، ويبقى هذا بطبيعة الحال بحاجة على تأكيد وتدقيق.

Email