العبر في إستيحاء الصور

صَالِح طه (1860 ـ 1907)

ت + ت - الحجم الطبيعي

حين كان صالح أحمد طه شاعر مدينة دوما (في الغوطة الشرقية قرب دمشق) وكان رئيس بلديتها كانت كتاتيب علماء المدينة هي النافذة الرئيسية للثقافة والأدب في المدينة.

وكان المتعلمون تعليماً واسعاً قلة قليلة، لكنّ مكانة صالح في المدينة، وبين شعراء الشام كانت عالية، وأضفى ذكاء الشاعر وبراعته الاجتماعية قيمة أخرى زادت الإعجاب به، وأدركتُ النّاس في صغري ممّن عرفوه، أو رووا عنه، يصفُونه بالذكيّ والألمعيّ.

وشعره الذي كتبه تحت صورته يعبر عن طبيعة شخصيته ، وتنامي ذاته ، فقد قال :

شمسُ البلاغة ما سَرتْ في سائري

إلا رأت أبراجها بسرائري

من أين للأرسام تدرك غايتي

هيهات! غايتُها برسم ظواهري

فالعلاقة بين الشاعر وبين شمس البلاغة وثيقة رفيعة، والصورة ـ وإن عبّرت بأقصى المُستطاع ـ لا تعرض للناس إلا الظاهر الخارجي، ومن أين لها بإدراك حقيقته، والإبانة عن غايته؟

والصُّورة المرافقة هي الصّورة الوحيدة الباقية لصالح طه، حصل عليها صاحب كتاب (من أعلام الأدب والفن) وعرضها في ترجمته للشاعر سنة 1954.

والشاعر هو صالح بن أحمد بن محمد طه، نشأ في بلدته دوما (أو دومة) وتلقى تعليمه في الكتّاب أولاً، وعلى بعض شيوخ عصره، واستكمل تعليمه وثقافته من قراءاته الذاتية، قال أدهم الجندي إن الشاعر اشتغل (بما ورثه من والدته من مال) بالتجارة، واستبحر خلال ذلك في علوم الهندسة والحساب والعلوم الروحانية فنبغ فيها، وعمل في بلدية دوما، وأدار أملاك بعض آل البارودي، إلى أن انتخب رئيساً للبلدية في المدينة.

ووصف الشاعر بالذكاء والنبوغ (لعله يفسر ما في شعره السابق من بروز معالم الشخصية) وكان قويّ الحجّة، ذا جرأة قويّة، وصراحة بالغة.

وقد سافر إلى الآستانة ولقي السلطان عبدالحميد ومدحه، ونال جائزته، وإعانة سلطانية لاستكمال بناء جامع طه (المسمّى باسمه)، واستحصل أمراً سلطانياً بنيل حصّة كانت ضائعة للمدينة من مياه نهر بردى، ولا تزال تعرف بالسّلطاني.

ترك صالح طه ديواناً مخطوطاً اطّلعتُ عليه، وكتباً أخرى بين مطبوع ومخطوط، واشتهر لصالح طه من الشعر مجموعةٌ من القصائد نظمها على أسلوب الشعر المهمل.

وهو نمط من الشعر ينظمه الشاعر ويستخدم في كلماته ألفاظاً ليس فيها حرف واحد منقوط، وأهمّ ما في ذلك المجموع قصيدة في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم، وسمى المجموعة باسم تلك القصيدة: «الدّراري واللآل لمدح محمّد والآل»، وبعدها قصيدة في مدح السلطان عبدالحميد (الثاني).

ـ وأول قصيدته النبوية، المشهورة بـ (المُهملة):

أسر الأسود هلالُ سلعٍ والحمى

لما رعى آل اللوى ولهم حمى

وترى هواه إلى المعالم كلّها

ووصاله أمر محالٌ، واللمى

وتبع قصائد صالح طه في ذلك المجموع عدد من قصائد أصدقائه من شعراء عصره قرّظوا فيها ذلك المجموع، وكان تقريظهم على نهجه من التزام (الشعر المهمل) كقول الهلالي الحموي في مطلع قصيدته:

أحلال سِحْرٍ أم كؤوس مدامِ

أم سلك درّ أم كمال كلام؟

ونظم صالح طه الموشحات (على الأُسلوب الأندلسي)، ومنها موشحة أَوّلها:

يا لقومي ما لدمعي هملا

وفؤادي حَرُّه في ضَرَمِ؟

وخَمَّس وشطّر أشعار غيره كقوله من تخميس قصيدة لابن الفارض

سبحان مَنْ أسْرى بصبري مذ سرى

دمعي فباح بسّرنا وبما جرى

وغدوت محتاراً وصحت مكبّرا

زدني بفرط الحبّ فيك تحيّرا

يا مَنْ سبى بجمال طلعته الورى

وفي شعره نفحات تعلُو، وتصدح بالشعر الرّقيق كقوله (قاله ارتجالاً كما في أَخباره).

إذا ذهب الوفاء فقل سلام

على أَهل المودّة والوفاءِ

ولا تعتبْ على أبناءِ دهرٍ

فلون الماء من لون الإناءِ

Email